رواية "وجوه لتمثال زائف" للكاتب العراقي المقيم بالدانمارك حسين السكاف طافحة بالمؤشرات والثنايا التي تحيل إلى يوميات الرعب والتطورات الدرامية التي يتكبدها العراق في زمن الديمقراطية الزائفة بعد الغزو الأميركي.كأن كل شيء يتغير من أجل ألا يتغير أي شيء.. سقطت شجرة لكن الغابة ظلت مرتعا للوحوش الآدمية والكائنات المشوهة، حتى أن الوجوه نفسها ظلت جاثمة على البلد، فقط تغيرت الأقنعة وتبدلت العبارة. تقع الرواية التي توجت بجائزة كتارا (فئة الروايات غير المنشورة)، وصدرت مؤخرا ضمن منشوراتها في 514 صفحة، وتدور حول 28 وجها، هي: وجوه شخص، ومن خلالها وجوه بلد ومجتمع مسخته ألاعيب السياسة والفساد. وتصدرت غلاف الرواية لوحة بالأبيض والأسود شديدة الإيحاء لوجه وقناع من تصميم الفنانة مريم أحمد الشيب؛ أجواء الترويع السياسي تهيمن، فهل هي رواية سياسية؟ غير أن صاحبها يجهر في حديث خاص بموقفه ضد تصنيف الأعمال الإبداعية. صناعة القتل الرواية فعل تذكر، وعيسى مرهون من مقامه خارج البلاد يسافر في رحلة عكسية عبر الزمن لاستعادة يوميات الرعب السياسي التي أسهم في صنعها والتخطيط لها، تحت رعاية رسمية سرية من خلال تصفيات موجهة للخصوم المزعجين من مثقفين وسياسيين وإعلاميين. يحفر في ذاته عميقا ليدرك سر ذلك الشخص الذي أصبح عليه: قاتلا محترفا بدم بارد، وبلا وخزة ضمير أو ندم، إلا في ما ندر. هكذا يلتئم شتات الحكاية؛ طفل يفتح عينه على مقتل والده السارق البئيس برصاص أغنياء حاولوا التسلل إلى بيتهم. يعيش تحت سطوة "مانع" عشيق الأم، ثم زوجها الذي يذيقه مر العذاب، وصولا إلى محاولة اغتصابه. يبدأ عيسى طريق الجحيم مبكرا، بقتل مانع بتزامن مع رحيل أمه وأخته الصغرى، فيجد نفسه يمضي طفولته في سجن الأحداث. يصور السكاف سجن الأحداث بتفاصيل مشهدية دقيقة تجعله موطنا للسلطة الجامحة، والتنشئة المضادة التي بدل أن تصلح الكائن تشوهه وتؤهله ليكون وحشا حاقدا على المجتمع والناس والذات. مسار إجرامي يبدأ عيسى مساره الإجرامي داخل السجن، حيث يعمل على تخدير سجناء بعينهم تنفيذا لأمر المقدم حاتم، ليكتشف أن مصيرهم ينتهي عند أطباء من شبكة منظمة للاتجار في الأعضاء البشرية. خارج السجن يواصل العمل، ويبدأ في الوقت ذاته مسلسل انتقامه الفتاك بتصفية المقدم حاتم، الذي أصبح ضابطا كبيرا لكنه يقع في قبضة العدالة من جديد لأسباب لا علاقة لها بعمله الدموي. بعد قضاء العقوبة تبدأ مرحلة جديدة، هذه المرة في إطار سياسي، ويفتح الكاتب عندئذ مدارا سرديا آخر، يسائل عبره تلك العلاقة الملتبسة بين الثقافة والسياسة في بلدان تحكمها العصابات، ويهيمن عليها الفكر الشمولي. رواية الحب المفقود جو الرعب في الرواية لا يقتصر على وقائع وتفاصيل عمليات التصفية والانتقام، بل يخيم على عالمها ككل، حيث تبدو مختلف العلاقات والمواقف محطات سردية تنذر بالأسوأ، وكثير من الشخصيات تدخل لعبة السرد كضحايا محتملين على قائمة الاغتيال.الكاتب لا يعيد إنتاج أسطورة وحش فرنكشتاين، المخلوق معدوم العاطفة، بل يحرص على بلورة شخصية معقدة التكوين النفسي ومزدوجة الإحساس والسلوك. هيمنة الدم والقسوة والإرهاب على أجواء الرواية العراقية وطبيعتها السردية تأخذنا -بتعبير السكاف- إلى عمق المأساة العراقية والهم الأرشيفي للفجيعة الذي يشعر به المثقف قبل غيره، فأرشفة الوجع والصراخ الفاضح للفجيعة ومن يقف خلفها. نجد أن أغلب الروايات العراقية التي تناولت الوجع العراقي انتبهت أيضاً إلى قيم جمالية وروحية وإنسانية في غاية العذوبة، فنجد الحب ولهفة اللقاء وصورة طفل معافى وقراءة مستقبل مسترخٍ لا يخلو من السعادة، وإن كانت تلك الأحلام تسبح في فضاء لا تنقصه رائحة الدم والبارود. رعب يسكن الرواية بالنسبة للكاتب، فإن الرعب يسكن الرواية، لكون الواقع ما زال الرعب يسكنه. من منا لا يسكنه الرعب؟ الحاضر مرعب والمستقبل مرعب أيضاً وأغلب بلداننا يسكنها الرعب. الرواية رؤية أدبية لوجع العراق، وبهذا المعنى فإنها وإن اكتست خصوصياتها الشكلية وبناءها المتميز، تحيل إلى ذلك التراكم الملحوظ الذي تحقق في السرد العراقي المواكب لتطورات الوضع السياسي في بلاد الرافدين، خاصة عقب الغزو الأميركي. يتعلق الأمر بخزانة روائية تحفل بالعناوين، مثل روايات علي بدر، الذي يتقفى في "حارس التبغ" جذور العنف كممارسة في تاريخ العراق الحديث، ويرصد في "ملوك الرمال" ابتذال الموت كمصير يحصد الأبرياء، ومحسن الرملي في "حدائق الرئيس" التي تستعيد نصف قرن من العنف والاستبداد والاصطفاف ما قبل صدام وما بعده، وسنان أنطون في "يا مريم" التي تثير تعرض المسيحيين لعنف موجه لدفعهم إلى الرحيل. هو الموضوع ذاته الذي تتناوله أنعام كجه جي في "طشاري"، وصولا إلى الفائز بالبوكر العربية أحمد سعداوي في روايته "فرانكشتاين في بغداد" وأسماء أخرى.