لا شك أن المعرفة بالله تورث المحبة والخشية واليقين؛ فكلما كان العبد بالله أعرف، كلما كان له أخوف، وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: (إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) (فاطر: 28) وقد كان رسول الله أعلم الناس وأعرفهم بالله، ولهذا فإنه كان أخشى الناس لله تعالى حيث قال: (أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية). ونحن مدعوون إلى أن نزيد معرفتنا بالله، لتزداد خشيتنا له فتخشع قلوبنا له فقد قال الله تعالى: (أَلَمْ يَاًنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد: 16]. ولهذه المعرفة بالله سبل لا يُتوصل إليها بدونها، يقول ابن القيم رحمه الله: الرب تعالى يدعو عباده في القرآن إلى معرفته عن طريقين: أحدهما: النظر في مفعولاته، والثاني: التفكر في آياته وتدبرها. فتلك آياته المشهودة، وهذه آياته المسموعة المعقولة...ومن القرآن العظيم نلتمس الطريقين، فهو يفتح القلوب للنظر إلى مفعولات الله، ويفتق الأذهان والعقول إذا تفكرنا وتدبرنا في آياته. وإن النظر في مفعولات الله تفكّر، وقد دُعينا إلى التفكر (أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمَّى) [الروم: 8]. وإن من أعظم ما يعيننا على النظر في مفعولات الله: التأمل في تقديره سبحانه وتعالى في خلقه، فهو القائل سبحانه: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان: 2]. فلله تعالى في كل شيء من خلقه قدْر وتقدير، وهذا التقدير معناه إعطاء كل شيء مقداراً وكمّاً محدداً على سبيل الحكمة، والتقدير أيضاً: إعطاء الشيء القدرة؛ فتقدير الله الأشياء على وجهين: أحدهما: بإعطاء القدرة، والثاني: بجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة.ونحن إذا تأملنا حديث القرآن عن التقدير، لوجدنا هذا التقدير بادياً في معالم الخلق كلها؛ فالتقدير بادٍ في خلق السماوات، وباد في خلق الأرض وفي خلق الإنسان على الأرض وفي رزقه وفي حياته وفي مماته. وسنرى في الحلقات الخمس الآتية بعد حلقة اليوم عن التقدير في السماوات أن القرآن قد حوى في إيجاز وإعجاز الحديث على هذه المعالم فأشار إليها كلها، ولفت نظر الإنسان للتفكر في تقدير الله تعالى فيها بكلياتها وجزئياتها.فأعظم ما يظهر لنا من المخلوقات السماوية في عالم الشهادة، وأكبر ما له تعلق بحياتنا منها، هذان النيّران العظيمان: الشمس والقمر، ولا شك أن السماوات مملوءة بملايين المخلوقات غيرها من النجوم والكواكب، وأيضاً الملائكة التي خلقت لسكنى السماء، ولكن يبقى النيّران الشمس والقمر من أهم مخلوقات السماء التي تتعلق بهما حياة الإنسان على الأرض، فلننظر إلى حديث القرآن عن تقدير هذين المخلوقين العظيمين، يقول الله تعالى: (هُوَ الَذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) [يونس: 5]. فالآية تشير هنا إلى تقدير له تأثير مباشر على حياة الإنسان، (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ) أي قدر سيره في منازل (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) يعني حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي، وقد خُص القمر في هذا السياق بالتقدير؛ لسرعته ولأن دوراته وتحركاته لها تعلق أكثر بأحكام الشرع، والمخاطبون هنا خطاباً أولياً هم أهل الإيمان بهذا الشرع (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) قال الألوسي رحمه الله: وتخصيصه بهذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة للشمس، ولأن منازله معلومة محسوسة، ولكونه عمدة في تواريخ العرب، ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأكثر. وقد أشار القرآن إلى لون آخر من التقدير المتعلق بالقمر في قوله تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ) [يس: 39] فالعباد يرون القمر في منازله المقدرة تلك: يولد هلالاً، ثم ينمو ليلة بعد ليلة حتى يستدير بدراً، ثم يأخذ في التناقص حتى يعود هلالاً مقوساً.. كالعرجون القديم.ولكم نتحير عندما نرفع أعيننا إلى السماء، ونشاهد الأجرام والكواكب والنجوم التي لا حصر لها. إن هذه الكرات السماوية التي لا تزال معلقة في الفضاء منذ قرون لا نعرف عدتها؛ تدور في الفضاء الفسيح السحيق على نظام معين معلوم، والقمر واحد من تلك الأجرام السماوية، وحركته تلك المشاهدة، ترشدنا إلى أن نتذكر أن كل أجرام السماء لها أفلاكها التي تَسبْح وتُسبّح فيها باسم الخالق العظيم (وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء: 44].أما الشمس فلها تقديرها الذي أشار إليه القرآن بقوله: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ) [يس: 38]. فهي تشرق وتغرب منذ أن خلق الله الدنيا شاهدة على انتظام ناموس الكون وفق قدرة الله؛ فإذا قدر الله لهذا الناموس أن يختل اختل ناموس الشمس بأمر الله، وكان اختلاله أعظم آية على بدء الخلل العام في نظام الكون إيذاناً بانتهاء الدنيا.. إن هذا يحدث عندما تشرق الشمس من مغربها، فعندها تترادف الأشراط الكبرى المؤذنة بنهاية العالم.أما قبل هذا.. فالشمس تجري والقمر يدور في منازله، وهكذا كل أجرام السماء وفق نظام دقيق وتقدير محكم (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس: 40] فلكل نجم أو كوكب فلك أو مدار لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه، والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة لكنها مقدرة وأكبر دليل على أنها مقدرة بدقة بالغة أنها لا تتصادم ولا تضطرب ولا تتناثر قبل الموعد المقرر لها. إن المسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس كما يقول علماء الفلك تقدر بنحو ثلاثة وتسعين مليوناً من الأميال، والقمر يبعد عن الأرض بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال، وهذه المسافات على بعدها ليست شيئاً يذكر حين تقاس إلى ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا.وتلك المسافات المقدرة في أبعادها السحيقة لبعضها تأثير على مظاهر هامة في حياتنا على الأرض؛ فالقمر مثلاً هو أقرب جيراننا في الفضاء، وهذا القرب يؤثر على البحار يومياً في حركة الأمواج والمد والجزر. والمسافة الفاصلة بين الأرض والقمر مناسبة تماماً ومقدرة لصالح أهل الأرض، ولو نقص هذا الفاصل إلى خمسين ألفاً من الأميال لحدث طوفان شديد في البحار تغطي أمواجه أكثر مناطق الأرض المأهولة فيغرق كل شيء، كما أن المسافة بيننا وبين الشمس لو اقتربت أكثر هي عليه الآن لاحترقت الأرض وما عليها.فسبحان من بيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير