قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إبْرَاهِيمَ إنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا * إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) [مريم: 41 - 45]. إنها خمس آيات تضمّنت إحدى وخمسين كلمة، تخشع أمامها قلوب المؤمنين، وتقشعرُّ لسماعها جلود المخبتين، والآيات الخمس تضمُّ فنوناً من التربية متنوعة، وأساليب للدعوة بديعة باهرة. إنه الإعجاز التربوي للقرآن الكريم في صورة من صوره: صورة الحوار بين مربٍّ وجهول، وعالم وعنيد، ونبي وكافر. إعجاز يقوم على أسس من الإقناع والتبصير ومحاولة تعديل السلوك الخاطئ، مستعيناً في سبيل ذلك بكل ما آتاه الله تعالى من حكمة وحسن تقدير. إن الآيات الخمس على وجازتها تتضمن معالم تربوية يحسن إبرازها في صورة نقاط تتعلق بمهام المعلِّم وأدواره وآليات عمله كما تظهر في حوار سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه. ومنها:أولا: استدرار عاطفة المتعلم: إن تكرار كلمة (يا أبتِ) أربع مرات في الآيات الأربع التي توجه فيها سيدنا إبراهيم عليه السلام بالخطاب إلى أبيه يدل على أهمية أن يكون تركيز المعلِّم في أسلوبه التربوي على ما يثير عواطف المتعلِّمين ويحرّك مشاعرهم الانفعالية الإيجابية نحو الموقف التعليمي. فهو بهذا النداء المتكرر، يستدر عاطفة الأبوة، ويمدُّ جسراً من الثقة بينه وهو النبي العالم وبين أبيه وهو الجاهل الكافر العنيد، وكأن علاقة الأبوّة والبنوّة في تقديره ستسهم في تحريك مشاعر الرجل ومن ثم تحريك عقله.ثانيا: أسلوب الاستفهام منشط للفكر: (إذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [مريم: 42]؟ هكذا بدأ سيدنا إبراهيم عليه السلام حواره مع أبيه؛ إدراكاً منه أن ما يسميه التربويون ب (الإثارة أو التمهيد) للدرس عنصر جوهري من عناصر العملية التعليمية، إنه بدأ الحوار الهادئ بسؤالٍ لا هدوء فيه على الإطلاق، سؤال يتصادم مع معتقدات موروثة تشبه بُحيرة آسنة ساكنة، رانَ عليها السكون قروناً وآماداً طوالاً، فهو يلقي فيها بحجر من الحجم الثقيل ليحرِّك سكونها. وهكذا.. من واجب المعلِّم أن يكون بدء تدريسه قوياً مثيراً فعَّالاً بأسئلة تهزُّ الوجدان وتزلزل العقول وتدفع المتعلِّم دفعاً إلى التفكير المستقلّ الحرّ.ثالثا: ثقة المعلِّم بنفسه ضرورية: إن قوة شخصية المعلِّم تقوم بالدرجة الأولى على مدى ثقته بنفسه، وبمادته العلمية، ورسالته الإنسانية، فإذا ما توفرت له ثقة بنفسه، وأحسن إعداد مادته العلمية، وآمن بنقل رسالته وصدقه مع نفسه في أدائها، كان ذلك أدعى إلى تحقيق أهدافه، وإنجاح عمله التربوي. ونحن نلمس هذا واضحاً في حوار سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه من خلال: التصريح بأن ما عنده من العلم يفوق ما عند أبيه، استعمال أسلوب التوكيد الذي يعكس ثقته بنفسه من جهة، ويسعى إلى كسب ثقة الطرف الآخر بما يقوله من جهة أخرى: (يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) [مريم: 43]، تنويع أساليب الخطاب من سؤال، إلى تحفيز، إلى تهديد بالعقاب.رابعا: الحلم وسعة الصدر: لا ينجح المعلِّم في أداء مهمته إذا كان عجولاً، يؤوساً، مقهوراً. وإنما ينجح بقدر ما يتحلّى به من صبر ومصابرة، وقدرةٍ على التحمّل؛ فإن المتعلِّمين قد يصدر منهم سوء أدب، أو فظاظة في الحوار، أو غلظة في الردّ، أو تعدٍّ على المعلِّم باليد أو اللسان، وعلى المعلم أن يكون قادراً على امتصاص ذلك كله وإحسان التعامل معه.وتدلنا الآيات على أن سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد أن استنفد كل وسائل الإقناع والتأثير، لم يجد من أبيه أذناً صاغية ولا قلباً مفتوحاً، بل وجد إصراراً على الكفر، وسوءَ ردٍّ، وغلظةً في الحديث؛ فهو يقول أربع مرات: (يا أبت)، وهو أسلوب نداء ترغيبي؛ لأن ياء المتكلم في قوله (يا أبي) أُبدلت تاءً. والمقام بينهما لا يحتاج إلى نداء؛ لأن الحوار مباشر وهما متقابلان وجهاً لوجه، لكن تكرار النداء بالأبوة فيه تحنين للقلب الجامد، ومحاولة متكررة لاستحضار ملكات السمع والذهن الشاردة. ومع ذلك فإن الأب الجهول يستكثر أن ينادي ابنه بقوله (يا بنيَّ) مسايرة لخطابه إياه بقوله (يا أبت)، بل إنه يقول له: يا إبراهيم؛ ليؤكد أن بينهما أمداًَ بعيداً من الانفصال العقلي والوجداني.خامسا: التنويع في أساليب التعليم: على المعلِّم لكي ينجح في عمله أن ينوِّع أساليبه التدريسية حتى يصل إلى أهدافه. وسيدنا إبراهيم عليه السلام في هذا الحوار، سعى إلى استمالة والده وكسب ثقته بالسؤال، والتحفيز، والبسط والشرح، والتهديد بالعقاب. ونستفيد من هذه الأساليب وتقديرها أنها هي الأسلوب الأمثل لما يجب أن يكون عليه المعلِّم من سعة أُفق، وقدرةٍ على التكيّف، ومرونةٍ في الأداء. والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.