من يسمع لشكوى من نُسيت؟ ومن يصغي لقصة من أهملت وضُيّعت؟ من يهتم لها فيرُدُ لها شأنها ومنزلتها، ويعرف لها حقها وفضلها، فقد اشتكت إلى الله قبل أن تشتكي إلينا، فحين سألها عن حالها من لقيها قالت: لولا أنكَ سألتني بالله ما حدثتك، فالأمر لله. لقد أعلى الإسلام شأني، وعظّم مكاني، ورفع عنواني، وجعل المحافظة على وصالي آيةً على الصلاح والاستقامة، وبراءة من الضلالة والغواية. لقد عرف سلفُ هذه الأمة مكاني، وصانوا جنابي، ولم ينقطعوا عن وصالي، بل قدموه على شهواتهم وحاجاتهم؛ فلم يصرفهم عن القيام بحقي صارف، ولم يشغلهم عن ملازمتي الأصحابُ والمعارف. ثم إنه خلف من بعدهم خُلوف خفَّ عندهم ميزاني، وهان في نفوسهم مكاني.هذا حال المتأخرين معها، فكيف كان حالها مع سلف هذه الأمة لعل هِممَنا تتحرك بسماعها، وعزائمنا تتقوى بعظاتها. قالت: لقد أحسن صحبتي أناس كثيرون، وتعاقب على وصلي رجال مَرْضِيُّون، لا يملون مجاورتي، ولا يفترون عن ملازمتي، وإنْ أنسَ فلن أنسى الإمام سُليمانَ بن مِهران "الأعمش" الذي ظل سبعين عاماً لم يفارق سوادُه سوادي، لقد أرغم الشيطانَ، فلم يقدر عليه سبعين عاماً.الله أكبر، ما أطولَ صبرهم على الملازمة، وأعظم جلدهم في المصابرة، ومَنْ غيرُ الأعمش؟ قالت: وأبو محمد، سعيدُ بن المسيب، الذي لم ينقطع عن ملازمتي أربعين عاماً، لم يزل رحمه الله قائماً بحقي رغم ما أصابه من الفتن حتى لحق بربه، لقد حزنت لفقده حزناً كبيراً، وكان مما زاد في حزني وضاعف في مصيبتي أنه في السنة نفسها سنة الفقهاء فقدتُ عابد الكوفة؛ الإمام إبراهيمُ بن يزيد التيمي، الذي لم يزل ملازماً لي حتى مات في الأصفاد والحديد التي قيَّده بها الحجاج، لقد قال هذا الإمام في حقي كلمة ووصية ما أُحب أن لي بها الدنيا. قال: إذا رأيتَ الرجل يتهاون بها – يعنيني هذه التي تشتكي- فاغسل يديك منه؟ فماذا لو أدرك هذا الرجلُ زماننا، كم من الناس يبقى لم يغسل يديه منه؟ وحين سئلت ماذا لو أن أحدا ممن ذكرت ضيعكِ أو انقطع عن وصلك كيف يصنع؟ قالت: لم يكونوا يفعلون ذلك إلا لمرض مفسد، أو سفر مبعد، أو عذر مقعد، ومع ذلك يبادر أحدهم إلى التوبة ويندم، ويستكثر من الطاعات ويغنم؛ فهذا قاضي بغداد العلاَّمة محمد ابن سَمَاعَة مكثتُ أربعين سنة لم ينقطع عن مصاحبتي إلا يوم ماتت أمه؛ فكرر زيارتي خمساً وعشرين مرةً، عوضاً عمَّا فاته، ولعل قارئا يقول:لا تُعرّضَنّ بذكرنا معْ ذكرهم * * ليس الصحيح إذا مشى كالمقعدِهذا حال زمانهم، فما حديث أهلِ زماننا؟ قالت: لقد طلبتني عسيراً، وأقحمتني كبيراً؛ فعن أي شيء من شأنهم تستخبر؟ لقد جفاني أكثر أهل زمانكم هذا، ولم يعبؤوا بحالي، ويعرفوا مكاني، ويحزنني أن ترى الرجل يُحسَبُ من أهل العلم والديانة، ومع ذلك تصرفه عني الصوارف، وتلفته اللوافت، وأشنع من ذلك أن ترى الرجل قد بلغ الستين وقد أعذر الله إلى أمرئ حتى بلَّغه ستين سنة، ثم تراه يبيعني بدينارين أو ثلاثة، يُقبِل على دنياه، حتى إذا أردتُ الرحيل أقبل يسعى كالصبيان ثم لا يلقاني؛ فإلى الله أشكو غربتي، وهواني على الناس.إنها بعد طول الشكوى لمن لم يعرف الفحوى (تكبيرة الإحرام). إنها تكبيرة الإحرام؛ التي قلّ من يُدركها أو يسبقها، وكثر من يضيّعها ويُفوتها، فدائما تسبقه ولا يسبقها، ولكن لا تفوته الضربة الأولى لانطلاق مباراة كرة القدم، هذا حال الناس مع تكبيرة الإحرام فما القول عن حالهم مع الصلوات الخمس المفروضة عليهم؟