أوردت كتب التاريخ أنه في زمن الحروب الصليبية أعدّ النصارى جيشاً عظيماً للاستيلاء على الأندلس، ولكن قبل أن يتحرك هذا الجيش لابد من وضع خطة الحرب من أجل تحقيق النصر؛ فأرسلوا من يأتي بأخبار المسلمين؛ فتنكر جاسوس من جواسيس النصارى في صورة تاجر ودخل بلاد المسلمين؛ وفي أول خطوة داخل أرض الأندلس الإسلامية التقى هذا الجاسوس بصبي مسلم يبكي تحت ظل شجرة، فقال الجاسوس للصبي: لماذا تبكي ؟. فقال الصبي: أبكي لأني رأيت طائرين فوق هذه الشجرة فأردت أن أصيدهما بضربة واحدة؛ غير أني أسقطت طائراً واحداً بينما الآخر طار ونجا. فرجع الجاسوس من لحظته إلى قومه ونصحهم بالتريث والانتظار حتى تتبدل أفكار هذا الجيل؛ لأن قوماً هؤلاء أطفالهم لن يُهزموا مهما بلغت قوة أعدائهم. فانطلقوا يبحثون عن سلاح أشد فتكاً من سلاح السيوف والرماح يستعملونه للانتصار على المسلمين؛ فاكتشفوا سلاح النساء والغناء والألعاب والمُلهيات، فغرق المسلمون في بحر الدنيا يطلبونها ولا يرتوون منها؛ متناسين قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلّم: (يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا) فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟. قَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ؛ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ؛ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ) فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) وبعد سنوات قليلة أصبح الأندلس فردوساً مفقوداً وتحول إلى قصيدة يترنم بها المسلمون.فهل تبيّنا لماذا انهزم العرب والمسلمون؟ ما تداعت علينا الأمم وتكالبت علينا الشعوب وتطاول علينا السفهاء إلا عندما غيرنا ما بأنفسنا فغير الله حالنا؛ وانتكست قيمنا وانعكست مفاهيمنا، فأصبح الأمر بالمعروف تزمتاً؛ والنهي عن المنكر تطرفاً؛ وتستر النساء تخلفاً؛ والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام تهمة وتهديدا للحضارة وتحجرا. ما انهزمنا إلا عندما حُدنا عن الصراط المستقيم، والطريق القويم، الذي أنزله رب العالمين.إن الانهزام الذي حدث ما وقع إلا لما أهملنا شرطي النصر والتمكين: الإيمان والعمل الصالح؛ قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ) وهما شرطان لا يُعرّفان في صفحة؛ لكن الإشارة قد تفي بالبيان؛ فتبين من هذا النص أن الله تعالى لا ينصر الكافرين ولا ينصر الفاسقين، ولا ينصر الظالمين ولا ينصر المعتدين، ولا ينصر اليهود ولا النصارى ولا المنافقين، بل وعد وتكفل بنصر المؤمنين الملتزمين بدين الله الخالص، المدافعين عن حوزة الإسلام والمسلمين، ونصرُهم رهين بنصرتهم لله في سرِّهم وعلنهم، وفي أنفسهم ومجتمعهم، فبين النصرين علاقة أشبه ما تكون بعلاقة اللازم بالملزوم؛ مصداقاً لقوله جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). فالنصر حليف المؤمنين؛ لكن مَن هم المؤمنون؟.إنهم الذين وصفهم الوحي بصفات متنوعة، أهمها ما جاء في مطلع سورة المؤمنون: (قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) فما أكثر المصلين في هذا الزمان، ولكن ما أقل من يخشع فيها، ومن يحافظ على أوقاتها، وما أكثر الأموال التي تنفق في بلاد المسلمين، ولكن ما أقل ما يتوجه منها في سبيل الله لإقامة المصالح الخاصة والعامة للمحرومين، وما أكثر صور اللغو في حياة المسلمين، وما أكثر صور الزنا السري والعلني، حتى صار المسلمون الطاهرون عرضة للأمراض الخبيثة والفتاكة؛ وما أكثر المؤتمنين والذين يطلقون الوعود، ولكن ما أقل من يؤدي الأمانة ومن يفي بالعهود.فالشرط الثاني لتحقيق النصر: العمل الصالح؛ وليس من العمل الصالح أن يُشجع العصيان والفسق والسوء والفجور في بلاد المسلمين؛ وليس من العمل الصالح تشجيع الاقتصاد القائم على رجس الربا الذي توعد الله تعالى بخراب ديار المرابين؛ ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكله وكاتبه وشاهده؛ وليس من العمل الصالح التساهل في ترويج الخمور وهي أمّ الخبائث؛ وليس من العمل الصالح أن تتحول وسائل إعلام المسلمين إلى منابر تسعى إلى تعميم الفساد في الخُلق، ونصرة الباطل على الحق.إن جل أعمالنا في زمن الهزيمة لا تمت إلى الصلاح بصلة، مع أن انتصارنا واستخلافنا رهين بالعمل الصالح بعد الإيمان؛ فكيف نطمع في نصرة الله سبحانه، وكيف نطمع في الاستخلاف والأمن والاستقرار والتمكين وأغلب أعمالنا لا يرضاها الله لنا ؟ أعمال قد تبدو في ميزان المصالح الدنيوية الصِرفة أنها أعمال صالحة، والراجح أنها أعمال غير صالحة، بل إنها أعمال يُسرّ بها الشيطان، وتستوجب غضب الرحمن، وتستدعي الخراب والدمار، وزوال الأمة بأكملها، وتلك سنة من سنن الله في الخلق، مصداقاً لقوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً).