المعلم كبير في عيون طلابه، والطلاب مولعون بمحاكاته والاقتداء به؛ لذلك كان لزامًا على المعلمين أن يتصفوا بما يدعو إليه العلمُ من الأخلاق والأعمال؛ فهم أحق الناس بذلك وأهلُه؛ لما تميزوا به من العلوم التي لم تحصل لغيرهم، ولأنهم قدوة للناس، فإذا كانوا كذلك أثَّروا على طلابهم، وانطبع مَن تحت أيديهم على أخلاق متينة وعزائم قوية ودين صحيح، وإن المعلم لا يستطيع أن يربي تلاميذه على الفضائل إلا إذا كان هو فاضلًا، ولا يستطيع إصلاحهم إلا إذا كان بنفسه صالحًا؛ لأنهم يأخذون عنه بالقدوة أكثر مما يأخذون عنه بالتلقين، وقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يستعينون بالعمل على العلم؛ لأن العلم إذا عُمِل به نما واستقر وكثرت بركته، وإذا تُرك العمل به ذهبت بركته وربما صار وبالًا على صاحبه؛ فرُوح العلم وحياته وقوامه إنما هو بالقيام به عملا وتخلقا وتعليمًا ونُصحًا؛ فالشرف للعلم لا يثبت إلا إذا أنبت المحامد وجلب السعادة وأثمر عملا نافعًا. قال الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في وصيته للمعلمين: ثم احرصوا على أن ما تلقونه لتلامذتكم من الأقوال منطبقًا على ما يرونه ويشهدونه منكم من الأعمال؛ فإن الناشئ الصغير مرهفُ الحس، طُلَعَةٌ إلى مثل هذه الدقائق التي تغفلون عنها، ولا ينالها اهتمامكم، وإنه قوي الإدراك للمعايب والكمالات؛ فإذا زينتم له الصدق فكونوا صادقين، وإذا حسَّنتم له الصبر فكونوا من الصابرين، واعلموا أن كل نقشٍ تنقشونه في نفوس تلامذتكم من غير أن يكون منقوشًا في نفوسكم فهو زائل، وأن كل صبغ تنفضونه على أرواحهم من قبل أن يكون متغلغلًا في أرواحكم فهو لا محالة ناصل حائل، وأن كل سحر تنفثونه لاستنزالهم غير الصدق فهو باطل. ألا إن رأس مال التلميذ هو ما يأخذه عنكم من الأخلاق الصالحة بالقدوة، وأما ما يأخذه عنكم بالتلقين من العلم والمعرفة فهو ربح وفائدة.. إن العمدة الحقيقية في الوصول إلى الغاية من التربية فهي ما يفيض من نفوسكم على نفوس تلاميذكم الناشئين من أخلاق طاهرة قويمة يحتذونكم فيها، ويقتبسونها منكم، وما تبثونه في أرواحهم من قوة عزم، وفي أفكارهم من إصابة وتسديد، وفي نزعاتهم من إصلاح وتقويم، وفي ألسنتهم من إفصاح وإبانة. وقال: كونوا لتلاميذكم قدوة صالحة في الأعمال والأحوال والأقوال، لا يرون منكم إلا الصالح من الأعمال والأحوال، ولا يسمعون منكم إلا الصادق من الأقوال، وإن الكذب في الأحوال أضر على صاحبه وعلى الأمة من الكذب في الأقوال؛ فالأقوال الكاذبة قد يُحترز منها، أما الأحوال الكاذبة فلا يمكن منها الاحتراز. ذكر الصحابة في القرآن والسنة إن عدالة الصحابة رضي الله عنهم عند من جعل كتاب الله وسنة رسوله هما نور دربه من مسائل العقيدة القطعية، أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة، فقد أخبر القرآن الكريم وأوضحت السنة النبوية أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصدق الناس ظاهرا وباطنا، فقد جاء في القرآن بيان رضى الله عنهم، قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح: 18)، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: كنا ألفا وأربعمائة. فهذه الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم تزكية لا يُخبر ولا يقدر عليها إلا الله، وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم ومن هنا رضي عنهم، ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر، لأن العبرة بالوفاء على الإسلام، فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام، وأما من علم موته على الكفر فلا يمكن أن يخبر الله تعالى بأنه رضى عنه. ومما يؤكد هذا ما ثبت في صحيح مسلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد من الذين بايعوا تحتها)، قال ابن حزم رحمه الله: فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم ورضي الله عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم، أو الشك فيهم ألبتة. وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن ابن عوف شيء فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مُد أحدهم ولا نَصيفه) رواه مسلم، وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أنا أتى أصحابي ما يوعدون) رواه مسلم، فمن شهد له القرآن وشهد له رسول الرحمن بالفضل لم يبق لمُتبع السنة والقرآن إلا أن يُقرّ ويعتقد هذا الفضل والمنزلة لهؤلاء الصحابة الكرام، أما من شكّ في فضلهم ومنزلته فقد شكّ في بعض آيات القرآن، ومن شكّ في بعض القرآن فقد شكّ فيه كله، ومن كان كذلك فقد عُلم حال من جحد بالقرآن.