· السلطات مطالبة بتوفير حليب هذا المرض الذي ينتظره الكثيرون هي واحدة من القصص المؤثرة، بطلها طفل جزائري صغير في عمر الزهور، يصارع مرضا نادرا، مع أسرة تبدل قصار جهدها، لتنقد فلذة كبدها من براثن هذا المرض، في بلد يعتبر حق الطفل فيه، في الرعاية الصحية من أقدس الحقوق، إنها قصة عائلة مشري التي استقبلتنا في بيتها العائلي، لتسرد لنا وبكل حرقة، قصتها مع مرض ابنها، والمعاناة التي ما تزال تعيش تحت وطأتها، والتي تعد محضوضة على خلاف عديد العائلات الجزائرية، التي لم تستطع إلى اليوم فعل شيء حيال أبنائها. حميدة بوعيشة "كانت فرحتي كبيرة عندما رزقت بأول طفل، وكان جميلا جدا ببشرة بيضاء وعينان زرقاوان، ورغم أنني ووالده لسنا بهذه المواصفات، إلا أنني لم أتفاجئ فلدينا في العائلة من هم بهذه المواصفات، لكنه لم يخطر ببالي أبدا أن هذه الملامح تخفي ورائها جينات تحمل مرضا نادرا، سيجعل حياتنا تسير في منحى آخر.."، بهذه العبارات بدأت السيدة صبرينة حديثها عن قصة مرض ابنها الوحيد أحمد سامي، الذي شاء قدره أن يكون من بين حالات نادرة، جاؤوا إلى هذه الحياة وهم يحملون مرضا نادرا، يحول بينهم وبين أهم احتياجات أي إنسان خاصة في فترة طفولته، ألا وهي الغذاء. سامي.. ملاك يحيا بين الألم والأمل أحمد مشري، أو سامي –كما تحب والدته أن تناديه- طفل يستعد خلال شهر جويلية المقبل لإطفاء شمعته الثالثة، ملاك يشع حيوية ومرحا، لا تفارقه تلك الابتسامة الجميلة، تخاله للوهلة الأولى عاديا ككل الأطفال، لكنه يخفي ورائه قصة مؤلمة كادت فصولها الأولى أن تعصف بمستقبله، وتجعل آخر فصوله شتاء بدل أن يكون ربيعا مزهرا، لولا مشيئة الخالق سبحانه وتعالى، الذي سخر له أما مثابرة، تحدت كل الصعاب، وصنعت من الألم أملا، وقفت في وجه مرض ابنها، وما يتطلبه من علاج، وظروف الحياة وكذا المجتمع الذي لا يرحم، كلبؤة تدافع عن حق شبلها الوحيد في أن يحيا حياة طبيعية تماما كالآخرين. من "سامي دمه ثقيل".. إلى "سامي مصاب بالفينيسيتونوريا" ولد سامي –كما أخبرتنا السيدة صبرينة- طفلا عاديا لا تبدوا عليه أي أعراض غير طبيعية، وظل كذلك إلى سن ال18 شهرا، حيث لم يكن يمتلك القدرة على النطق والكلام، ولا على المشي، وهي مشاكل بررتها العائلة وفق المعتقدات السائدة في مجتمعنا الجزائري والتي تتلخص في عبارة "دمه ثقيل.."، ومن تم بدأت تظهر على الطفل بعض أعراض مرض التوحد، وهو أمر لم يبعث في نفس السيدة صبرينة الراحة، ودفعها إلى عرضه على أكثر من طبيب، ورغم أنهم جميعا أكدوا لها أن ابنها طفل عادي وسليم من أي مرض، وأوضحوا لها أن ما يمر به أمر جد طبيعي، كما أنه ومع الوقت، سيتكلم ويمشي، إلا أن حدس الأم همس في قلبها بأن تعرضه مجددا على مختص آخر، كان أكثر خبرة وحنكة من سابقيه، حيث رجح أن يكون لدى الطفل هذا المرض النادر، ودون أن يخبر الوالدة بما توقعه، طالبها بإجراء نوع معين من التحاليل، التي لم تتمكن من إجرائها في الجزائر واضطرت إلى إرسال عينة من دم سامي إلى فرنسا، لتصدم بعد شهر من ذلك بأن ابنها مصاب بمرض نادر هو "الفينيسيتونوريا". "الفينيسيتونوريا" مرض يحرم المصاب من تناول الأكل العادي ولإعطائنا فكرة عن المرض تقول أم سامي، "الفينيسيتونوريا هو مرض نادر وراثي، ليس لدينا في العائلة، في الدول المتقدمة يمكن اكتشافه بعد 3 أيام من الولادة، حيث إذا تم اكتشافه في هذه المرحلة، وتمت متابعته يستطيع أن يعيش المصاب به حياة عادية، لكن في الجزائر هناك مشكل كبير فيما يتعلق بالتشخيص، حيث لا يتم اكتشافه بسهولة"، وتضيف الأم أن المصاب بهذا المرض لا يمكنه أن يتناول الطعام العادي كباقي الناس، وفي الجزائر لا يمكنهم أن يأكلوا سوى كميات محددة بدقة من الخضر والفواكه، موزعة على عدد معين من الحصص في اليوم، وهذا وفق برنامج غدائي طبي، أما اللحوم والحليب وكل الأغذية البروتينية فليس بإمكانهم تناولها على الإطلاق. وفضلا عن هذا، لدى المصابين بهذا المرض حليب، هو في الحقيقة دواء يتراوح سعره بين 2 و3 ملايين سنتيم للعلبة الواحدة، يحتاج الفرد الواحد لحوالي 5 علب خلال كل شهر، وهذا لمساعدتهم على النمو الطبيعي، كما أنه يمنع إصابتهم بأمراض كفقر الدم، التخلف الذهني، أو أي إعاقة، في حين أن عدم توفر هذه المادة يجعل الطفل عدوانيا، مرض سامي.. صدمة ولدت قوة نزل خبر إصابة الصغير سامي بمرض الفينيسيتونوريا النادر، كالصاعقة على أسرته خاصة والدته، التي تقول عن تلك المرحلة "أصعب لحظة مررت بها في حياتي هي اللحظة التي علمت فيها بإصابة سامي بهذا المرض النادر، فمهما حدث معي بعد ذلك اليوم، لم ولن يكون مثل تلك اللحظة.. والحمد لله أنه لم يحدث لي شيء جراء الصدمة"، وتضيف السيدة صبرينة أنها ظلت تبكي طوال الليل والنهار ولمدة سنة، وبكل ألم تعبر الأم عن حياتها بعد اكتشاف مرض صغيرها قائلة "أكثر شيء يحرك أي إنسان هو أن يتألم ابنه.. أصعب شيء أن ترى ابنك يموت جوعا أمام عينيك ولا تستطيع أن تفعل له شيء.. من الصعب أن ترى أطفالا في عمر ابنك، وهم يأكلون أمامه كل شيء وأنت لا تستطيع أن تمنعهم.. ولا تستطيع أن تطعمه مما يأكلون.. تخيل ألا يكون بإمكانك وضع طاولة أكل تجتمع عليها الأسرة، لأنك تخاف على ابنك من فتات الخبز.. تخيل ألا يكون بإمكانك أن تحضر اللحم والدجاج، إلى البيت لأنك لا تستطيع أكلها دون أن يشاركك ابنك..". لكن هذه الصعاب كانت رحمة ولدت لدى السيدة صبرينة عزيمة قوية، وإرادة صلبة، على التحدي، والعمل الدؤوب، لتوفير أهم ما يحتاجه هذا الطفل، حيث تقول المتحدثة في هذا الصدد "إرادة الأم لا يمكن التغلب عليها.. ولا يستطيع شيء الوقوف في وجهها مهما كانت الظروف كلها معاكسة.. إرادة الأم تقول بأنه علي فعل المستحيل من أجل ابني.. والحمد لله سلحنا قلوبنا بالإيمان والرضا بالقضاء والقدر رغم صعوبة الوضع". ويبدأ مشوار المعاناة... مع اكتشاف مرض الطفل سامي دخلت العائلة في مشوار طويل، كانت بدايته صدمة قوية وما تزال نهايته آمالا معلقة، تسعى الأسرة جاهدة لتحقيقها، على أرض الواقع، حيث تعود بنا أم سامي بذاكرتها إلى الأيام الأولى بعد اكتشاف المرض، وهذا عندما لم تكن تجد ما تطعم به صغيرها ذو السنة والنصف، سوى الماء والسكر، ولم تكن تعرف كيف توفر له مادة الحليب التي يحتاجها، والتي لم تكن متوفرة في الصيدليات كما أن الكثير من الصيادلة لا يعرفها حتى، إضافة إلى أن سعره جد باهظ، وهو في حاجة إليه مدى الحياة، وهناك دخلت الأسرة في سباق مع الزمن، للبحث عن إمكانيات وطرق توفير المادة، حيث باعت الأم مجوهراتها، وبعض ممتلكات الأسرة، واستعانت بالعائلة والأحباب، من أجل توفير المبلغ الذي تستطيع من خلاله توفير الحليب، بعد أن عرفت بوجود صيدلية وحيدة في الجزائر توفر المادة، ثم توجهت إلى تونس، أين يوجد التكفل التام للمصابين بهذا المرض، فخضع سامي للعلاج، وبدأت حالته في التحسن. وتقول المتحدثة "الحمد لله ابني في تحسن مستمر.. وشيء فشيء بدأ يمشي، ويتكلم، ويلعب.. ويقلد الأصوات.. ويقوم بأشياء لم أكن أتوقعها.. رغم أنه محروم من تناول الأكل، وما يزال يتابع عند مختصة نفسية، ومختصة نطق، لكن كلما حقق شيء جديد، أعطاني دفعة للأمام، وزاد من إرادتي للمطالبة بحقه، وحق باقي الأطفال المصابين، خاصة وأن هذه التجربة منحتني الكثير من القوة، ودفعتني نحو الأمام، لم أعد أخشى شيء"، وتضيف الأم "من أجل ابني أعمل حاليا في روضة بدرارية، في حين أنا أسكن في الحميز، وهذا حتى يكون سامي في جو به أطفال، يساعده على الاندماج، وفي نفس الوقت أتابعه وأحرص على تغذيته، لأنه ن المستحيل أن تحرص مسؤولة الروضة على إطعامه، وفق نظامه الغذائي الخاص". مصابان بالمرض الأول في عداد المجانين والأخرى من الأوائل في الدراسة وفي سردها لقصتها مع هذا المرض، توقفت المتحدثة عند حالة لعائلة من ولاية قسنطينة، تعكس مفارقة بالنسبة لهذا المرض، وتبث أهمية التشخيص المبكر، والمتابعة الطبية للمرضى، فهذه العائلة لديها طفلين الأول في سن ال16 سنة وهو في حالة يرثى لها، ولا يمكن أن تتخيل الوضع الذي آل إليه، والمعاناة التي يعيشها هو وعائلته، مع هذا المرض الذي أفقده قدراته الذهنية، نظرا لغياب التشخيص المبكر للحالة، ومن تم عدم خضوعه للمتابعة إلا بعد فوات الأوان، وهذا على العكس تماما، مع الطفل الآخر، وهي الأخت الصغرى مايا، التي تبلغ 8 سنوات وتدرس في السنة الثانية ابتدائي، والتي تم تشخيص حالتها منذ الولادة، وكذا التكفل بها خارج الوطن، ما جعلها تحيى حياة طبيعية، وهي الآن من بين الأوائل على مستوى قسمها. واعتبرت السيدة صبرينة أن الطفلة مايا، وما حققته من نتائج ممتازة خلال متابعتها وعلاجها في تونس، أين يوجد التكفل التام للمصابين بهذا المرض، بعث في نفسها أملا كبيرا في أن يحيا ابنها أيضا حياة طبيعية، كما أنه جعلها ترفع التحدي لتطالب بأن يكون في الجزائر أيضا، تكفل تام بالمصابين بالفينيسيتونوريا، في إطار ما يضمنه القانون الجزائري للطفل من حق في الصحة. معاناة بأوجه متعددة إن حاجة المصابين بالفينيسيتونوريا الدائمة إلى مادة الحليب، تجعل عائلاتهم تحت ضغط دائم، وتخوف من عدم القدرة على توفير المادة، وما يترتب عن ذلك من مضاعفات صحية خطيرة، على الأطفال، كما أن وضع الأطفال في الولايات الأخرى –كما أوضحت أم سامي- جد سيء، ولا يمكن تصوروه، خاصة في ظل غياب التعليم، ونقص الإمكانيات المادية، ما يجعلهم يتخبطون بين التخلف البدني والعقلي، إضافة إلى صعوبة التنقل إلى العاصمة خلال كل شهر لإجراء التحاليل اللازمة لمعرفة تطور حالة الطفل، ومن تم النظام الغذائي الذي يجب إتباعه تماشيا مع الحالة، وهي تحاليل تجرى فقط بأحد مخابر مستشفى مصطفى باشا، في حين تجد الأمهات غير المتعلمات صعوبة كبيرة في فهم نظام التغذية الذي ينبغي على المصاب بالمرض إتباعه، هذا فضلا عن مسؤولية الأطفال الآخرين، بالنسبة للعائلات التي لديها أكثر من طفل، فمن الصعب جدا التوفيق بين مسؤولياتهم جميعا، ومصاريف الاحتياجات اليومية، إلى درجة أن البعض من الأسر تفككت بسبب هذا المشكل، وهناك من تخلوا عن أبنائهم المرضى. وللقصة بقية... بعد أن عجزت الصيدلية الوحيدة التي كانت تبيع مادة الحليب عن توفيره، تقول السيدة صبرينة "بادرت بالاتصال بمن تعرفت عليهم من أولياء المرضى المصابين بالمرض، وعرضت عليهم أن نقوم بوقفات احتجاجية أمام وزارة الصحة، لأنه لم يعد لدينا خيار آخر، وكان مطلبنا هو توفير مادة الحليب لأبنائنا، وجعلها مؤمنة 100 بالمائة، كما هو الحال بالنسبة لأدوية الأمراض المزمنة"، وتواصل المتحدثة قائلة "ليكون صوتنا مسموعا أكثر، حاولنا تأسيس جمعية هنا بالعاصمة، لأن الجمعية الوحيدة الخاصة بهذا المرض موجودة في بسكرة وبالتالي فنشاطها مقتصر على المنطقة التي تتواجد فيها، لكن واجهتنا مشكل الوقت، فالحصول على الاعتماد وحده يتطلب سنة، والوقت طبعا ليس في صالحنا، وبالتالي ارتأينا أن نكون أحد فروع جمعية "وليامس وبورن" التي تختص بالأمراض النادرة، ونعمل حاليا على استكمال الإجراءات القانونية اللازمة لذلك". أما بالنسبة لمطلبهم، فقد قابلته الوزارة بالقبول، حيث قامت بتسجيل هذا الحليب، كدواء يتم استيراده، قبل أن تنسحب من الساحة تاركة الكرة في ملعب وزارة العمل والضمان الاجتماعي، باعتبارها الجهة المخولة لتحديد الأدوية التي تؤمن ويتم التعويض عليها. وتضيف المتحدثة أنهم رفعوا مطلبهم، من خلال توجيه رسالة إلى الوزارة المعنية، وحاليا هم في انتظار الرد، مؤكدة أنه وفي حال المماطلة وعدم الاستجابة، ستعود العائلات إلى خيار الوقفات الاحتجاجية أمام الوزارة في الأيام القليلة المقبلة، نداء أم "أوجه رسالتي إلى كل من يستطيع أن يساعد ولو بالقليل، لأن القليل والقليل، يصنع الكثير، فنحن في الجمعية نعاني من غياب المتبرعين، ومن جهة أخرى الأمر يفوق مسألة التبرع، لأنه من المستحيل أن يتحمل أحد مسؤولية مساعدتك مدى الحياة، حتى وإن كان من أقرب الناس إليك، وبالتالي نحن نرفع مطلبنا إلى الجهات الرسمية على رأسها وزير العمل الطيب لوح، حتى يتم توفير أدوية الأمراض النادرة، ويصبح مثل الأمراض المزمنة، لنتخلص من هذا الضغط الذي نعيشه، ونحن متخوفون من نفاذ مادة الحليب".