إن مواضيع الكتابة في عصرنا ابتعدت عن الخيالات والأوهام، والإنسان يتقدم كل يوم بل كل لحظة، ويدخل عوالم واسعة من التجارب والخبرات، سواء في العلاقات الفردية أو الجماعية، ويتعمق كل يوم في فهم سر النفس البشرية، ولذلك لا بد من وجود عامل الصدق في الكتابة، لأنها لا تصبح كتابة ولا إبداعا إذا لم ترصد نتيجة ذلك الهوس، والتوتر، والمعاناة النفسية والذهنية للمبدع، وإن المبدع لا يرصد ما في نفسه وذهنه فحسب، بل يرصد ما في النفوس، نفوس الآخرين حوله وما يعتمل داخل مجتمعه والمجتمع الإنساني من آلام وطموحات. ولعل الكتابة الناجحة المؤثرة هي تلك التي تنبع من القلب والوجدان، وهي التي تخلد وتنهل منها الأجيال، ويظل أثرها منسابا في النفوس والقلوب، كما أن المعيار الذي يزيد كتابة الكاتب جمالا وقوة هو الصدق، والأمانة، في النقل، والتصوير، واحترام أذواق الناس ومشاعرهم، والاهتمام بقضاياهم ومشكلاتهم، والمعالجة الموضوعية لها. لا شك أن الكاتب الذي يعيش في هذا العالم الفسيح يخوض تجارب عديدة تُمكّنه من فهم وسبر أغوار النفس البشرية، ورصدها بتفاصيلها وجزئياتها في العملية الإبداعية، وهذا من خلال إعادة تشكيل هذه المعاناة النفسية والذهنية للكاتب، بحيث يصوغ منها واقعا فنيا جديدا يأسر به وجدان القارئ. المرأة قضية اجتماعية في كتابات ونيسي لا شك أن المتتبع لكتابات (ونيسي) في مختلف الأشكال الأدبية: من مقالة، وقصة، ورواية، سيلاحظ تواجد عنصر المرأة بشكل يلفت الانتباه سواء في كتاباتها ذات البعد النضالي الثوري أو الاجتماعي، كما خصّت معظم مقالاتها، وأحاديثها، لقضية المرأة، ودورها في المجتمع، خاصة بعد الاستقلال عندما تبنت قضاياها، فكان لزاما عليها أن تسعى إلى تعليمها وإخراجها من الجهل، وتدعو إلى الحملات التطوعية لتعليم النساء في الريف، وانطلاقها مع النصف الآخر من المجتمع. كما دعت بعد الاستقلال إلى تكوين منظمة نسائية تتولى قضايا المرأة الجزائرية، تكفل لها الإسهام النضالي من أجل حياة أفضل لها ولمجتمعها، ومن خلال منظمة الاتحاد العام للنساء الجزائريات شاركت المرأة في القضايا الوطنية، والاجتماعية، والسياسية. وتضاعفت اهتماماتها بقضية المرأة خاصة حين أصبحت مديرة لمجلة (الجزائرية) إذ تقول: "في سنة 1970م، دُعيت لإنشاء أول مجلة نسائية في الجزائر تهتم بقضايا المرأة وتشكل منبرا لاهتماماتها، وهو حدث ذو أهمية قصوى في تلك المرحلة، منبر يعنى بهذه القوة الاجتماعية المهمشة والمبعثرة، منبر جديد فتح لي آفاقا واسعة لمعرفة خبايا المجتمع وخلفياته الذهنية، وتراكماته الفكرية. فهي ترى أن الهدف الأول والأساسي من إنشاء هذه المجلة؛ هو إنارة طريق المرأة، وتسهيل دورها المطلوب في بناء المجتمع الاشتراكي، والسعي بدون كلل لتوفير توازن في وضع المجتمع، وذلك بتحسين ظروفها الاجتماعية والفكرية، والاقتصادية. وهذه فقرة من الكلمة الافتتاحية الأولى التي صدرت في العدد الأول من مجلة (الجزائرية)، تقول فيها (ونيسي): "يا ربات البيوت، ويا فتياتنا زهرات المستقبل، ويا رجالنا الأفاضل، إن هذه المجلة (الجزائرية) ستبدأ من هذا العدد تخاطبكم، وتفتح صفحاتها لكم، آملة أن تبادلوها بالمثل، مما يجعلها قريبة منكم، ويجعلكم قريبين منها. يتبيّن من خلال هذا الخطاب أن مجلة الجزائرية ليست موجّهة للنساء فقط، بل هي مجلة موجهة لكل الفئات الاجتماعية، وهدفها استقطاب المجتمع ككل، ليحدث التفاعل الايجابي بينهما في طرح كل القضايا التي تهم الأسرة والمجتمع. ولأن (ونيسي) ترى أن قضية المرأة لا يجب أن تُطرح مُنْفصلة عن مشكل أو قضية الرجل، فكلاهما يشكل الفرد في المجتمع، والتخلف قاسم مشترك بين أفراده، سواء في بلادنا أو في العالم الثالث كله، يبقى أن المرأة تخلّفها أكثر من الرجل، هذا أمر له أسبابه وعوامله، حيث كانت الهيمنة التي تعاني منها المرأة مضاعفة عن الرجل؛ فهي تعاني من الهيمنة الاستعمارية بشكل عام، ومن هيمنة الرجل نفسه بشكل خاص. يتضح من كلامها أن مشكل المرأة في بلادنا ليس مشكلا نبحثه منفردا عن مشكل الرجل، فهما يشكلان في حقيقتهما مشكلا واحدا هو مشكل الفرد في المجتمع، فالمشكلة في اعتقادنا لا تُحدد في الجنس اللطيف فحسب، بل هي فوق ذلك تتعلق بتقدّم المجتمع ككل، أي بمدى استعداده وتقبّله لعمليّات التغيير، والتّحولات الاجتماعية. إن الحل لهذه المعضلة الاجتماعية حسب(ونيسي) يجب أن يكون حلا مشتركا بين الرجل والمرأة، كما يستوجب الاستعداد له أوّلا ثم توفير الآليات الضرورية والشروط الكفيلة بتحقيق هذا التغيير الاجتماعي. المرأة و قضية التغيير الاجتماعي: إن عملية التغيير الاجتماعي لن تتحقق –حسب رأي(ونيسي)- إلا إذا توفرت له الشروط المناسبة إذ تقول: " نريد إنسانا يؤمن بتجنيد الرجل والمرأة على السواء لتحمل المسؤولية الملقاة على عاتقهما كمواطنين صالحين، لأن الرجل وحده لا يمثل إلا نصف طاقة الشعب، وسوف لن يصل بدون جناحه الثاني إلى تحقيق كل أهداف الوطن، إن التغيير الاجتماعي سيحدث لا محالة، نتيجة لكثير من العوامل الفكرية وغير الفكرية التي يكتسبها المجتمع، والمرأة جزء منه واجبنا أن نأخذ بيدها ونقودها إلى روافد الوعي والإدراك، لنحفظها من التأثر بالخارج حتى لا تندفع نحو الانحراف عن جادة الطريق السوي، لأننا نريدها أن تتطور داخل مجتمع له مميزاته وخصائصه". تلك هي الشروط الضرورية التي تراها (ونيسي) كفيلة بإنجاح عملية التغيير الاجتماعي في المجتمع، ودفع عجلته إلى الأمام سواء بالنسبة إلى المرأة أو الرجل, أما عن كيفية تحقيق هذا التغيير من الداخل فتضيف قائلة: " فكان من المنطق السليم أن يحدث تطور المرأة من الداخل وفي الداخل، من مجتمعها، وعلى خطوات مدروسة وبتخطيط تبعا لأهداف هذا المجتمع ومتطلباته. وتطهير المرأة من الداخل، وبتخطيط هادف، وحسب متطلبات وأهداف، مجتمعنا يكسب المجتمع إنسانا جديدا، سليما، مكتمل الشخصية". وحتى يحدث هذا التطور داخل المجتمع للمرأة وللرجل على حد سواء, لا بد من وضع استراتيجيات و آليات لتحقيق ذلك, ولكن الأهم-على حد تعبيرها- سيظل قطعا هو تحرير الرجل كي تتحرر المرأة, فإذا لم يتحرر الرجل في بلادنا ويتخلص من الرواسب الجاثمة في دماغه، وينظر إلى الواقع الجديد نظرة عقلانية, فإن حرية المرأة وتحررها ستظل لسنوات طويلة منقوصة، حتى يزول هذا الجيل التقليدي المتزمت، ويظهر جيل جديد يحمل لواء نظام تربوي نابع من قيمنا وأخلاقنا، تساهم المرأة الجزائرية في وضعه وتطبيقه. لا شك أن التغيير الايجابي المرجو لن يتحقق في أي مجتمع , إلا بتحرير الإنسان من أي استغلال مهما كان نوعه, ومساهمة كل من المرأة والرجل في تأسيس وبناء قيم حضارية، واجتماعية، نابعة من أسس تربوية أصيلة, والتخلي عن كل الرواسب القديمة. لذلك ترى (ونيسي) أن مشكلة المرأة قضية من قضايا التحرر الإنساني, وهي من أبشع أنواع استغلال الإنسان لأخيه الإنسان في البيت الواحد، والأسرة الواحدة. قضية من أهم قضايا التطور السليم في عالمنا العربي، لا بد أن تدخل في عوامل وأهداف الثورة الثقافية، بدءا من عملية التطوير الذاتية عند الرجل والمرأة . فعملية التغيير الاجتماعي تقوم على فهم عميق, ومعطيات واضحة, وقواعد صلبة لدراسة المجتمع ككل:(مناخ فكري,تطورات اقتصادية,تغير سلوكي..)، وبشكل أعمّ ثورة فكرية اجتماعية. لا شك أن هذه الثورة الفكرية والاجتماعية الشاملة التي نستشفها من كلام (ونيسي) هي الكفيلة بتغيير نمطية التفكير والسلوك، مما سيؤدي حتما إلى التغيير الاجتماعي، الذي يستوجب بدوره تحرير ذات الرجل وذات المرأة، و تطوير قدراتهما حتى يحدث هذا التغيير الاجتماعي. إن النظر في قضية المرأة يجب أولا أن تبدأ من الواقع وحيثياته بعيدا عن النظريات كما تقول(ونيسي): " نظرة على المحاكم في بلادنا العربية الإسلامية، وعلى ملفات الأحوال الشخصية، ومشاكل المرأة والرجل، وبالتالي الأسرة والأطفال، نظرة كهذه تجعلنا نتروى كثيرا عندما نتحدث في قضية المرأة ". هكذا تطرح (ونيسي) قضية المرأة كقضية اجتماعية شاملة على بساط البحث بأبعادها وجوانبها المختلفة غير معزولة عن قضايا الأسرة والمجتمع ككل, لذا فإن حل هذه القضية معناه حل قضية المرأة والرجل على حد سواء، فهي قضية اجتماعية مشتركة. إن النظرة الكلية الشاملة التي طرحت من خلالها (ونيسي) قضية المرأة لأجل معالجة إشكالياتها الاجتماعية المتعددة، كفيلة بحل كثير من المعضلات الاجتماعية الأخرى التي لها صلة وثيقة بقضية المرأة الأساسية, لأنها مرتبطة بها أشد الارتباط, لذلك فلن تجد قضية المرأة بمفردها حلا نهائيا إلا إذا عولجت سلسلة من القضايا تشكل حلقات متشابكة في القضية الأساسية؛ ألا وهي قضية المرأة وتداعياتها الاجتماعية. بات واضحا أن (ونيسي) أولت قضية المرأة عناية خاصة من خلال آرائها وكتاباتها، وجعلت منها قضية اجتماعية تهم الجميع. و لا شك أن الباحث المتفحّص يلمس هذه الخصوصية الأنثوية لدى الأديبة في كيفية طرحها ومعالجتها لقضايا المرأة بأبعادها المختلفة، سواء في مقالاتها الاجتماعية، أو في خطابها القصصي النسوي المتميّز