لي صديق كان يشتغل في قطاع التعليم، كان معلما في مدرسة ابتدائية، وكان كثيرا ما يستدين في آخر الشهر، لاقتناء بعض الضروريات اليومية التي لا غنى عنها، كالخبز والزيت والحليب والقهوة، والسكر، ذلك أن راتبه الشهري لا يكفي سوى لسد حاجيات الأسبوعين الأولين من الشهر. وكان إلى جانب ذلك يحب تربية الحيوانات، فكان يملأ وقت فراغه بتربية الدجاج والأرانب في ساحة بيته، يسد بها بعض الثغرات، ببيعها في السوق الأسبوعية بالمدينة المجاورة، تجنبا لغمزات رفاقه وتلاميذه وأهليهم، إذ أن الناس في تلك الفترة مازالوا يعتبرون أنه من العيب على المعلم أن يشتغل في مهنة أخرى موازية، تكسبه احترام نفسه وعائلته كما قال لي ذات مرة. وبعد حوالي 17 سنة قضاها في الأقسام يعلم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة، استطاع بفضل تلك المهنة الموازية، أن يوفر بعض المال الذي مكنه من الانخراط في التجارة، فانقطع عن التعليم، وتفرغ لتربية الدجاج، وسرعان ما تطورت حاله، إذ لم تمض سوى بضعة أعوام حتى صار صاحب مقاولة، وانقلبت صفته الأولى من معلم في مدرسة ابتدائية، إلى"مْعَلَّمْ " صاحب شركة وعمال وآليات ومشاريع... عندما التقيت به صباح أمس صدفة، أمام مقهى الحي، الذي غادره بعد أن فتحت له أبواب الرزق في مكان آخر، جلسنا حول فنجان قهوة دعاني إليه، ذلك الفنجان الذي كان في السابق، يضعه موضع المحرج، ويجعله يخجل من الجلوس في المقهى لخلو جيبه من ثمنه، قلت له": كيف هجرت التعليم، وتربية الأطفال..فقاطعني بقوله:".. لا، هجرت الفقر. فقلت له: ولكن تربية الأطفال عمل شريف ونبيل... فقال: نعم، ولكن وجدت في تربية الحيوانات ما لم أجده في تربية بني البشر.. فقلت له بشيء من المكر: منطق تجاري.. "استبدل سلعة بسلعة تربح"!