لأنّ أحلامهم كانت أكبر من الحقيقة الملموسة فلم يقتنعوا بسيرورة حياتهم العادية، راحوا يجوبون الآفاق ويبنون الأماني على أرض الخيال..فكانت بلدان مثل كندا، أستراليا، السويدوألمانيا وغيرها من أراضي الأحلام التي فيها حتما سيحققون طموحاتهم..هم شباب وكهول وحتى إطارات وعمال وعاطلون عن العمل، ظلوا ينشدون السعادة المفقودة وراء البحار، ورأوها في الهجرة دون سواها، لم يمتطوا زوارق الموت ليصنفوا ضمن "الحراڤة" أو يتسللون في البواخر وفي غفلة عن عيون الربان والحراس، بل سافروا بطريقة شرعية وتأشيرة حقيقية لكنهم فضلوا البقاء في البلد الذي شدوا الرحيل إلىه وبعدها أصبحوا مهاجرين بلا عنوان، سياحا لكن غير مرغوب فيهم وبطريقة غير قانونية بعد أن انتهت صلاحية مدة بقائهم في تلك البلدان. منهم من ترك عائلته ومنهم من قدم استقالته بل ومنهم حتى من طلق زوجته لئلا تعيق سير حياته في الخارج، قطعوا تذكرة إلى حيث وقع اختيارهم الأخير واصطدموا بواقع جديد لفترة معينة، وعاشوا لحظات الانبهار في أوجّها كأنهم في هذيان، لم يصدقوا أنهم حققوا مرادهم بالوصول إلى الأرض التي طالما سمعوا عنها وأفنوا لحظات عمرهم يتوقون إلىها ولو لدقيقة واحدة وبعدها فليحدث الطوفان وليجرفهم فيها، لكن بعد تجاوز هذه المرحلة الحالمة، بدأت رحلة المتاعب والبحث عن المأوى والسعي وراء الحصول على عمل يضمن الكرامة وأجر يسد الجوع ويفي بقضاء الحاجيات الشخصية وللادخار أيضا، حينها فقط، فشلت كل المساعي وأجهضت كل لأحلام أمام الواقع الحقيقي للهجرة، ليكونوا آخر من يعلم بأنهم غرباء ودخلاء غير مرغوب فيهم..ومن هنا بدأت مغامراتهم بل معاناتهم فسيفسائها الهروب، المطاردة، الخوف، وما أخفى كان أعظم...
كنت أنام في الشوارع وأبحث عن لقمة العيش في المزابل، وفقدتُ الأمل في الحصول على عمل شريف... نبدأ في سرد مغامرات البعض من هؤلاء الذين عادوا إلى أرض الوطن بعد أن تمّ ترحيلهم من الجهات الأمنية لتلك البلدان التي كانوا يقيمون فيها بصفة غير شرعية،،ومن بين هِؤلاء (هواري- 33سنة)، يروي لنا رحلته الفاشلة إلى ألمانيا.." كنت عاملا في إحدى الشركات الوطنية بوهران لكنني لم أقتنع بحياتي وأردت المال الكثير والعيش الرغيد خاصة وأنّ العديد من شباب الحي وقتئذ كانوا يغادرون الوطن إتباعا إلى أوروبا، وعلىه جمعت أوراقي والمبلغ المناسب وتدبرت أموري وقطعت تذكرة باتجاه ألمانيا، وهناك انبهرت بالعالم الجديد وبدأت رحلة المعاناة، كنت أنام في الشوارع وأبحث عن لقمة العيش في المزابل، كان لزاما على أن أتدبّر شؤوني، لكن مضت الأيام و الأسابيع ثم الشهور ثقالا وأنا في رحلة شاقة للبحث عن عمل شريف لكن دون جدوى، ومن هذا الذي يمنحك فرصة العمل وأنت في وضعية غير قانونية؟..وكلما سمعت سفارة الشرطة إلا وهربت في كل الاتجاهات، حتى ألقي القبض على ذات ليلة أمام ملهى ليلي واقتادتني الشرطة إلى مركز المهاجرين فسلمت بطاقتي وجواز سفري وأمضيت أوراق التعهد بالتزام قوانين المركز حرفيا إلى حين يتم ترحيلي إلى وطني، بعين المكان وجدت الكثير مثلي ومن جنسيات مختلفة كلهم كانوا يحلمون مثلي فوجدوا أنفسهم مشردين ومطاردين ولا خيار لهم سوى البقاء مثل اللقطاء في بلده هم غرباء عنه، عوض الاستسلام لأمر الواقع والعودة إلى أرض الوطن بخفي حنين..و هناك في المركز كانت معاملة الألمان للمهاجرين سيئة للغاية، ورغم أنّ أنهم كانوا يتكفلون بعملية إيوائنا وغذائنا ولكن بطريقة أشبه بمعاملتهم للحيوانات، حيث أن المسكن الواحد كان يضم أكثر من عشرين مهاجرا والأكل يصلنا بكميات قليلة جدا حتى يُثار الشجار والخصومات لدرجة الضرب قصد افتكاك أكبر قدر ممكن من الأكل...إن الهروب من المركز يعد ضربا من الخيال ومع ذلك فقد استطاع البعض من الهرب ومعظمهم جزائريون، لذلك كانت أعين أعوان المركز كانت أشد علىنا كجزائريين، وقد قيل لي بأنّ جزائريا تمكن من الهروب داخل صهريج الماء دون أن يلحظه أحد ووصل إلى هولندا بعد أن اجتاز الحدود بسلام وأجرى مكالمة هاتفية لصديقه الذي تم ترحيله إلى أرض الوطن,..."
اضطررت ذات يوم للسرقة كي أسد رمق الجوع الذي كان يئز في بطني إزا، لكن قُبض على مُتلبسا... من جهته ( أبو بكر- 28 سنة ) كان يظهر من كلامه أنه ذكي وفراسته لا يفيها وصف أو لها مثيلا،خاصة حين سألناه بأن يقص علىنا مغامرته التي وجدها كالظمآن يحسب السراب ماء، فقال وفي نبراته ألم ما بعده ألم.." كنا نعتقد بأنّ أوروبا وأمريكا هي العالم الجديد بالنسبة إلىنا وفيها نحقق كل آمالنا وأحلامنا ما أن تطأ أقدامنا تلك الأوطان، وصلت إلى السويد بعد رحلة شاقة في البحث عن الوسيلة، خاصة بعد أن تمكنت من الحصول على عنوان صديق لي كان يقطن في مدينة ( لوند – السويدية ) الذي ساعدني في بداية الأمر ورحب بي كثيرا خاصة وأنه كان يملك مسكنا ومتزوجا من امرأة سويدية ذات جمال يسر الناظرين، ولكن بعد بضعة أسابيع كان لزاما على أن أتدبر شؤوني خاصة وأنني لاحظت بأنّ صديقي بدأ يضيق ذرعا بي دون الإفصاح عن ذلك صراحة، ومن هنا بدأت معاناتي في الترحال إلى أن وصلت العاصمة ( استوكهولم ) حيث اضطررت ذات يوم للسرقة كي أسد الجوع الذي كان يئز في بطني إزا، ولكن كاميرات السوق الكبرى لم تكن غافلة عما قمت به رغم حرصي الشديد على أن لا أضبط متلبسا، وألقي على القبض من حيث لا أشعر أمام الباب الخارجي للسوق، وقضيت أياما في السجن حتى تمت محاكمتي وترحيلي".
أفضل العمل في بلدي مهما كان نوع العمل، أحسن ألف مرة من تنظيف بقايا قاذورات الأوروبيين.. لم تقف عدوى الهجرة عند هؤلاء العمال البسطاء والعاطلين عن العمل فحسب، بل تعدتها إلى إطارات جامعية وسامية ظلوا بدورهم يطمحون إلى حياة أفضل في ظل التهميش الذي عاموا منه طويلا، لكن سوء الحظ كان لهم بالمرصاد، ومن بين هِؤلاء ( أحمد – مهندس في الإلكترونيك ) لم يسعفه الحظ في تحقيق الكثير من طموحاته على أرض الواقع فغادر الوطن باتجاه بلجيكا لكنه تفاجأ بعد فترة من الزمن بواقع مزري غير ذاك الذي كان يتصوره، كيف له أن يتحوّل من مهندس إلى مجرد مُنظف في أحد المطاعم، ثم أنّ المبلغ الزهيد الذي كان يتقاضاه لم يكن يساوي العمل الشاق الذي كان يقوم به وقد قبل أنه كان في وضعية غير شرعية ولا يُسمحُ له بالعمل إلا عند الخواص وفي غفلة عن القانون، ومن هنا بدأ يعيد حساباته وأردع قائلا.." المال الذي كنت أجنيه كان زهيدا جدا لا يتماشى ومتطلباتي اليومية مقارنة مع المعيشة هناك، حينها فقط بدأت أفكر بجدية وعقلانية، كيف سيكون مستقبلي هنا ‘ذا ما بقيت في هذا العمل المضني الذي لا يسمن ولا يغني من جوع..وعلىه بعد مد وجزر اتخذت قرار العودة إلى أرض الوطن مهما كلفني الأمر، وهكذا رجعت خائبا مدحورا ولكن في قرار نفسي مرتاحا على القرار الذي اتخذته ورغم مرارته إلا أنه كان صائبا.." سكت هنيهة ثم قال.." أعمل في بلدي لأي عمل مهما كان نوعه حتى وإن لم يكن يتماشى مع مستواي الدراسي أحسن ألف مرة من تنظيف بقايا قاذرات وفضلات الأوروبيين.."