كشفت دراسة حديثة قام بها أكاديميون جزائريون عن تنامي ظاهرة الأطفال في الجزائر، حيث بلغ عددهم حسب ذات الدراسة 8,1 مليون طفل مقحم في سوق العمل بينهم 3,1 مليون يتراوح سنهم بين 6 و13 سنة من ضمنهم 56٪ إناث، في حين أحصت الدراسة بوجود 28 ٪ من الأطفال المشغلين الذين لا يتعدى سنهم 15 سنة، وذكر الكشف وجود 4,15٪ منهم أيتام وفقدوا الأب أو الأم فيما يعيش 1,52٪ منهم في المناطق الريفية. تنتشر ظاهرة عمالة الأطفال في الجزائر بوضوح شأنها شأن معظم البلدان التي لها نفس الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وقد جاء عمل الأطفال في المنازل كخدم كأخطر أشكال عمالة الأطفال نظرا لتعرضهم الدائم للإهمال والاستغلال والحرمان، حيث يعملون لساعات كثيرة وغير محددة، كما أنه غالبا ما يتعرض الطفل للإيذاء النفسي والبدني بالضرب والإهانة وغالبا العدوان الجنسي أيضا، وما مريم، فاطمة، صبرينة إلا عينة من عشرات الأطفال الذين استغلوا استغلالا واضحا في خدمة المنازل. تخلوا عن طفولتهم في سبيل لقمة العيش أجبرتهم الظروف على التوقف عن اللعب واللهو فتخلوا عن طفولتهم سعيا وراء لقمة العيش، مارسوا أعمال الكبار حتى أصبحوا بحق أطفال شقاء وحرمان. تروي مريم ذات العشرين ربيعا قصة طفولتها التي قضتها في العمل كخادمة بين منازل العاصمة فتقول: ''كنت صغيرة لما توفيت والدتي وأعاد أبي الزواج، زوجته كانت شريرة تضربنا وتفضل أبناءها علينا أنا وإخواتي، الفقر والمزيرية أرهقونا، ضيق المسكن، الجوع، ضنك العيش، العنف الاسري فقد كنت أضرب لأتفه الأسباب، كنت أحب الدراسة لكن لا كراريس ولا كتب ولا ملابس، حتى أنني أتذكر أنه كان عندي حذاء ممزق''. وعن بدايتها في العمل قالت مريم: ''كنت في سن الحادية عشرة عندما كنت أساعد جارتنا في غسل الأواني وأقوم بكنس فناء مسكنها مقابل خمسة أو عشرة دنانير، وأحيانا أتغدى معها، وكانت ترسلني لبيت ابنتها بالقرب من حينا لكي أغسل أوانيها وألعب مع رضيعها وأغسل ملابسه وبالمقابل تعطيني شيئا آكله أو ألبسه.. ورغم أن قلبي كان متعلقا بالدراسة إلا أنني غادرتها وقلبي يتفطر.. كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما أخذتني إحدى النسوة للعمل في منزلها ( فيلا 3 طوابق).. كنت أنهض على الساعة السادسة صباحا أبدأ بتنظيف الجنان وأضع الملابس في الغسالة وفي حدود الساعة السابعة صباحا أقوم بتحضير القهوة وإيقاظهم من النوم، ولما يخرجون للعمل أقوم بتنظيف الغرف وكل الفيلا، وعند انتهائي من هذه الأعمال الشاقة أقوم بتنقية الخضر لكي تقوم صاحبة البيت بإعداد الغداء وأنا أجهز الطاولة، وبعد فراغهم من الغداء أغسل الأواني وأرتب المطبخ وبعدها أقوم بنشر الملابس المبللة والأخرى الجافة أقوم بكيها تم أرتاح قليلا، وفي المساء نفس الشيء وكنت أنام عندهم وهذا هو عملي يوميا''. تسكت مريم قليلا وتنتهد وتقول ''الصحة شحال عزيزة'' وتكمل'' إلى أن جاء اليوم الذي مرضت فيه بسبب هذه الأعمال الشاقة، مرضت فقر الدم وجاءني نزيف دموي حاد دخلت على إثره المستشفى وبقيت شهرا ونصف للعلاج وعدت مرة أخرى للعمل ولكن لم يكن بمقدوري العمل كما كنت سابقا فوجدت نفسي مطرودة في الشارع''. تبكي مريم وتقول: ''هذه الدنيا قاسية ولحد الآن أقول ما الذي فعلته في حياتي حتى أشقى كل هذا الشقاء رغم صغر سني''. وتضيف ''عدت إلى منزلي ولكن الظروف أجبرتني على إعادة الخروج مرة أخرى للعمل وهذه المرة كانت معاناتي أكبر، عملت عند زوجة قائد عسكري كانت لديها فيلا كبيرة جدا والعمل فيها أكبر، كل يوم شاق أكثر والمؤسف أنها تقوم بسرقة أموال التي تعطيني إياها عند نهاية الشهر، كما أن ابنها كان مرارا يحاول الاعتداء علي. والذي لا أستطيع نسيانه رغم كل ما حصل لي معها - تحدق مريم في السماء وتنهمر الدموع من عينيها وتقول حسبي الله ونعم الوكيل فيها - أنه يوم عيد ميلاد ابنتها وبين كل الحضور قالت لي ''ما تخميش نهار عيد ميلادك نشريلك بيدون ونشاف وطابلية وفروطوار'' والضيوف أخذوا يضحكون، لو كان تحلت الارض ندخل فيها. وبعد أشهر قليلة عاودني المرض وعدت إلى المستشفى لا مال لي لأن أبي كان يأخذ مالي ولا صحة، فقط صديقاتي من وقفن إلى جانبي. بقيت في المستشفى قرابة 3 أشهر وعندما خرجت مكثت في منزل إحدى صديقاتي قرابة العام ونصف العام، لم أقم خلالها بأعمال شاقة حتى استرجعت عافيتي.. دخلت لأعمل عند قاضية كمربية لطفلها الصغير ومساعدتها في الأعمال المنزلية وحتى اليوم أنا أعمل عندها والحمد لله، هذا القليل القليل مما عشته وعانيته في حياتي من ضرب وإعتداء جنسي وإهانات تحبط من معنوياتي والآن أنا جد نادمة على الدراسة التي لم أوفق في متابعتها''. وتضيف مريم ''أتمنى أن أتزوج وتكون لي بنت وأمتعها بكل مراحل حياتها من الطفولة إلى المراهقة إلى النضج لتعيش ما لم أستطع عيشه''. أما فاطمة فهي أخت مريم الصغرى والتي تبلغ من العمر ستة عشر سنة هي الأخرى حتى الآن مازالت تعمل كخادمة في المنازل، لقد بدأت العمل في سن الثالثة عشرة عندما أجبرتها قساوة الحياة على ترك مقاعد الدراسة والاتجاه إلى العمل، وقد ساعدتها في ذلك مريم أختها إذ أدخلتها لأول مرة عند عجوز طاعنة في السن لمساعدتها في غسل الاواني وتنظيف الأرض وشراء كل ما تحتاجه من خضر ومواد غذائية ومرافقتها عندما تخرج في زيارة أو تذهب إلى الطبيب. تقول فاطمة: ''أحلى أيام حياتي عشتها مع تلك المرأة كانت تعاملني كابنتها لم ينقصنِ شيء معها، عطفت علي وغمرتني بحبها وحنانها وكانت تناديني بابنتي، لكن يوم توفيت أحسست أن الدنيا اسودت في عيني رحمها الله''. هكذا وعندما انتقلت العجوز إلى ذمة الله أجبرت فاطمة على البحث عن عمل في منزل آخر وهذه المرة ذاقت الأمرّين حيث عملت عند امرأة ''شريرة'' كما سمتها فاطمة، فقد كانت فاطمة تقوم بتنظيف الغرف وتمسح الزجاج وتغسل الأواني وتذهب للتسوق، والغريب في الأمر أنها كلما أنهت تنظيف غرفة تأتي صاحبة المنزل وترمي دلاء من الماء في الغرف التي قامت بتنظيفها فتأتي فاطمة وتعيد تنظيفها، وإذا ما اشتكت فاطمة أو بكت تهددها صاحبة المنزل بالطرد. وتضيف فاطمة ''لم أرَ في حياتي امرأة كهذه لا رحمة ولا شفقة، أتذكر يوما وبينما أنا متواجدة في غرفة الأطفال، أخذت دمية بين أحضاني أعجبتني لأنها كانت من النوع الذي يغني ويرقص وعندما رأتني سارعت إلي وانتزعتها مني وقالت لي بأسوأ عبارات الإهانة ''أنت بونيشة، أنت هنا للعمل فقط والأشياء التي لا تعنيك لا تلمسيها بتاتا''.. تتنهد فاطمة وتقول: ''حتى أبناءها كانوا ينادونني''بونيشة'' كنت أتعذب عندما يأتي أحد الجيران للعب معهم ويسأل عن من أكون فيقولون هذه'' البونيشة تاع ماما''.. هذا قليل من الإهانات اليومية التي كنت أتعرض لها وأنا أرى أنني أعمل بعرق جبيني وقبلت كل ما سمعته حتى لا أخرج للشارع وأتبع أبناء الحرام والحمد لله''. والآن فاطمة تعمل كنادلة في أحد المطاعم في ضواحي العاصمة. أما صبرينة ذات الخامسة عشرة فخروجها للعمل كان بعد طلاق والديها عملت عند أحد الأجانب السوريين كخادمة في منزله، ولكن هذا الأخير حاول الاعتداء عليها عدة مرات، فهربت من عنده ودخلت لتعمل عند امرأة بضواحي الشراقة، كانت تقوم بأعمال شاقة وتعامل كعبد حسبما صرحت لنا إذ قالت: ''كنت أعمل ''كي ليسكلاف'' منذ أن أدخل صباحا وأنا أعمل حتى أخرج من أجل جني ''زوج دورو'' ووالدي على قيد الحياة.. وهكذا إلى أن جاء يوم حضر للمنزل الذي تعمل فيه أحد أقربائهم، كان طاعنا في السن تعدى على صبرينة وأفقدها عذريتها ومن شدة خوفها هربت من ذاك المنزل وهي الآن بين أحضان الشارع. هذه حقيقة وواقع قاسٍ يعيشه الأطفال، وبالرغم من أن القوانين الجزائرية اهتمت بالطفل وبرعايته وسطرت حقوقه والظروف التي يجب توفيرها لتنمية ملكته الفكرية وقدراته الجسدية، إلا أن الواقع يبرز حقيقة مختلفة تماما عن ما سطرته هذه القوانين.