قضايا ثقافية في تراثنا الشعري العربي قديمه وحديثه صيحات تمرد كثيرة ووقفات طويلة مع النفس يقفها الشاعر في مواجهة الضرورة التي سلبته حريته والحاجة التي اضطرته لكبت مشاعره ورأيه الحقيقي والملاينة أو الملاءمة التي جعلته يبدي غير ما يكتم، وينطق بغير ما يؤمن ويعتقد. وقد أتيح للشاعر والكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي كثيرون لا يعرفون أن له ديوانا شعريا يكشف عن موهبة شعرية حقيقية ولغة شعرية رصينة أتيح له في بعض ترجماته عن الأدب الفرنسي، خاصة في مسرحية الشاعر أن يطلق من أعماقه صرخة حارة تصور نفس الشاعر على حقيقتها العارية البعيدة عن كل زيف أو ادعاء، كما تصور قلب الشاعر الذي هو مرآة لصور الكائنات صغيرها وكبيرها دقيقها وجليلها باعتباره الصورة الصغرى للعالم الأكبر وما فيه. واستطاع المنفلوطي الذي يرتجم عن الفرنسية أو لعله كان يصوغ بلغته وأسلوبه ما أسعفه آخرون بنقله الحرفي ليضعه هو في لغة بيانية مشرقة، تحمل سمات كتاباته في نظراته وعبراته التي فتنت قراء عصره بنسجها المحكم وقدرتها على تصوير الشعور الحزين وأوجاع النفس الإنسانية استطاع أن يقدم لقارئه لوحة فاتنة من النثر البديع لا تخلو من وهج الشاعرية، وهو يقول على لسان سيرانو بطل مسرحية الشاعر: أتريد أن أعتمد في حياتي على غيري، وأن أضع زمام نفسي في يد عظيم من العظماء، أو نبيل النبلاء يصطنعني ويجتبيني ويكفيني مؤونة عيشي، ويحمل عني هموم الحياة وأثقالها فيكون مثلي مثل شجرة اللبلاب لا عمل لها في حياتها سوى أن تلتف بأحد الجذوع تلعق قشرته، وتمتص مادة حياته بدلا من أن تعتمد في حياتها علة نفسها، وذلك ما لا يكون. أتريد أن أحمل نفسي على عاتقي، كما يحمل الدلال سلعته وأدور بها في الأسواق مناديا عليها، من منكم أيها الأغنياء والأثرياء والوزراء والعظماء وأصحاب الجاه والسلطان يبتاع نفسه بذمتها وضميرها وعواطفها ومشاعرها بلقمة عيش وجرة ماء. وفي الأخير يختار الشاعر المنفلوطي أن يعيش حرا طليقا، يضحك كما يشاء ويبكي كما يشاء ويحتفظ بنظره سليما وصوته رنانا، وخطوات منتظمة، ورأسه مرفوعا، وقوله صريحا ينظم الشاعر في الساعة التي يختارها وفي الشأن الذي يريده، فإن أعجبه ما ورد عليه منه فذاك وإلا تركه غير آسف عليه ولا آبه بدل التوسل إلى الطابعين أن ينشروه الأدباء أن يقرظوه والممثلين أن يمثلوه والعظماء أن يتوهوا به ويرفعوا من شأنه.