تمر منطقة الشرق الأوسط بمتغيرات وتحديات فعلية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية التي سيكون لها تداعيات مباشرة في تبلور وتشكل استراتيجيات المنطقة. ربما نلمس نتائجها في المرحلة الحالية أو في الوقت القريب، هذا التبلور على المستوى الدولي يتضح من خلال المستجدات والمعطيات التي أفرزتها الانتخابات الأميركية في إدارتها الجديدة برئاسة باراك أوباما، صاحب النظرية الدبلوماسية السلمية التي تحتاج إلى إعادة ترتيب سلم أولويات السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، والتعامل مع قضايا المنطقة الشائكة، وأهمها "البرنامج النووي الإيراني"، التي ربما قد تخطت الأخيرة بالفعل العتبة النووية، يرى الإسرائيليون فيها كسرا لاحتكارهم القوة النووية في المنطقة في وقت السلم، وخطرا وجوديا عليهم في وقت الحرب. فهم يقرأونه إذن قراءة عسكرية بالأساس، وهناك الوضع الهش في العراق الذي يستنزف القوة المسلحة الأميركية، أيضاً هناك الحكومات الضعيفة في لبنان وفلسطين في ظل قوة متصاعدة للميليشيات المسلحة، والمتمثلة في حزب الله في لبنان وحركة حماس في فلسطين؛ وتراجع الأمل في إنجاز اتفاق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فهي تتحدث عن مسار بعكس اتجاه الرياح، على المستوى الإقليمي فلا يزال التشرذم والانقسام العربي على أشده، في وقت تشهد الأراضي الفلسطينية الأكثر سخونة وتعقيداً، لاسيما بعد ارتكاب إسرائيل المجزرة البشعة مطلع العام، ذهب ضحيتها آلاف من الشهداء والجرحى وتدمير واسع النطاق للبنية التحتية لقطاع غزة. وعلى أثر ذلك، سارعت حكومة أولمرت إلى الهروب إلى الأمام وتحميل حركة حماس المسؤولية وقامت بعقد اتفاقيات أمنية عابرة للقارات "إقليمية ودولية" بموجبها تمنع إدخال أو تهريب السلاح فهي لا تزال حتى الآن تقوم بقصف مناطق الأنفاق مع الحدود المصرية لقطاع غزة في محاولة لخلق واقع مغاير، في ظل إغلاق شبه تام للمعابر والحدود باستثناء السماح لبعض المساعدات الإنسانية الطارئة بالدخول، وهكذا يكون بإفراز الانتخابات الإسرائيلية الراهنة واقع جديد بصعود اليمين المتطرف إل سدة الحكم، يكون مصير المفاوضات وأيضاً أتفاق التهدئة في محل المجهول، خاصة وأن تشكيل الحكومة يستدعي دمج أحزاب يمينية متطرفة تدعو لوقف المسار السياسي التفاوضي وارتكاب المزيد من المجازر بحق الشعب الفلسطيني وتهجيره على نطاق واسع. بينما لا تزال كافة المعطيات على الساحة الفلسطينية المأزومة نتيجة الانقسام السياسي على حالها، وسط جهود مصرية وعربية كثيفة لرأب الصدع وتحقيق المصالحة وإنهاء الشرخ بين الفلسطينيين. لاسيما وأن هناك استجابة أوروبية حول إمكانية التعاطي مع حكومة وحدة وطنية يسعى الرئيس عباس من جديد إلى تسويقها وتفعيلها، تكون حركة حماس جزءاً من هذه الحكومة المقترحة التي تسعى مصر كوسيط إلى تحقيقها في نطاق رزمة شاملة تنهي بموجبها الصراع بين الأطراف الفلسطينية وتكون متزامنة مع إبرام اتفاق تهدئة مع الاحتلال الإسرائيلي، وهذا الموقف الأوروبي بمساهمة تركية وفرنسية قد تشكل في الآونة الأخيرة نظراً للظروف الإنسانية التي تعيشها الأراضي الفلسطينية بفعل سياسة الحصار والإغلاق وجرائم الحرب الإسرائيلية التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، لا من وجهة نظر حق وقضية قومية، وكأن المهمة أوكلت إليهم في تحمل عبء ووزر الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية لكنها تظل مواقف محدودة وخجولة للغاية، ويبقى الاختبار الحقيقي أمامها في مدى تعاطيها مع مرتكبي الجرائم الإسرائيليين نحو تقديمهم للعدالة كمجرمي حرب. أميركياً، كافة الأنظار تتجه صوب الإدارة الأميركية الديمقراطية برئاسة أوباما، الذي تبنى برنامج سياسي سلمي شامل "محلياً وإقليمياً ودولياً"، ولكنه حتى اللحظة هو لم يبلور بعد خيوط لعبته أو خارطته الإستراتيجية المستقبلية بشكل واضح، بمعنى برنامجه مزدحم للغاية، وهي بحاجة إلى دبلوماسية متعددة القنوات لتحقيق الأمن والسلام في الشرق الأوسط، وكل ما جرى ينطوي في إطار الحملة الانتخابية وتصريحات تفوه بها عبر وسائل الإعلام تشير على أن السياسة الأميركية سوف لا تنتهج سياسة العصا الغليظة قبل استنفاذ الإغراء الجزري، لاسيما وأن المنطقة تعج بالقضايا خلفتها إدارة بوش، على رأسها موضوع الأزمة الاقتصادية العالمية الحادة التي تهدد الاستقرار الأميركي والدولي، وهنا تكمن الخطورة في حال انشغال إدارة أوباما في إصلاح الأزمة الاقتصادية وأمور أخرى وضعها على سلم أولوياته تخص الشأن الأميركي في المقام الأول، وتترك المسألة الفلسطينية ومشاكل الشرق الأوسط لا سيما وأن الأراضي الفلسطيني تمر بتحول غير مشجع بعد صعود اليمين المتطرف في إسرائيل إلى سدة الحكم. رغم ذلك هناك بصيص من الأمل وبوادر مطمئنة تحدثت عنها إدارة أوباما، أهمها إعلان تعيين السيناتور "جورج ميتشل" مبعوثا خاصاً له للمنطقة وإرساله فوراً إلى المنطقة. لكن كما أسلفنا هناك الكثير من العوامل المعوقة لمثل هذا المساعي، فمن ناحية أولى ثمة حاجة إلى تفعيل الجهود الدبلوماسية من أجل التوصل إلى اتفاقية سلام، تؤسس على حل قيام دولتين متجاورتين، وهو أمر ما يزال قائماً ويمكن الوصول إليه. وقد أستنبط الكثيرون وعبروا عن ارتياحهم للوعد الذي قطعه اوباما بطي صفحة إدارة بوش المأساوية وفتح صفحة جديدة مغايرة. ولكن عامل القلق يبقى هو المخيم على شبح المنطقة أمام معطيات الانتخابات الإسرائيلية للكنيست الإسرائيلية التي جاءت وسط اهتمام محلي وإقليمي لتكشف القناع عن حقيقة الوجه الإسرائيلي الإرهابي المتعنت، دولة وشعباً. والتي انكشفت بعد ارتكاب المجزرة الرهيبة في قطاع غزة في توقيتها المتزامن مع الانتخابات لتؤكد أن الدم هو ثمن ورقة الانتخاب، وسط تصريحات متطرفة لسفاحيها لكسب الأصوات، وحقيقة تبين جوهر الدولة الإسرائيلية ايديولوجياً ومسلكياً الذي ينطلق من أيديولوجية توراتية تؤكد أنها دولة استيطانية عنصرية لا تحمل تجاه الحل السياسي مع الفلسطينيين سوى المزيد من سيل الدماء ونهب الأراضي وإقامة الجدران العازلة والإغلاق والحصار وترحيل وتهجير المواطنين الفلسطينيين من مدنهم وقراهم عبر إجراءاتها الإجرامية بحق الإنسانية. الفلسطينيون أيضاً هم صلب المشهد لأنهم يعانون أزمة بالغة التعقيد، فالسلطة خاسرة في استراتيجيتها وسياستها التفاوضية المتبعة مع إسرائيل، كذلك الفصائل الفلسطينية المنضوية في إطار منظمة التحرير مأزومة. فحركة "فتح" تعيش على أوهام إنجازات عقود قليلة سابقة، وحركة حماس تعيش على أوهام قرون طويلة سابقة. الأولى استبدلت التبرير بالتحرير، وطرحت مبدأ الثورة ليحل محلة مبدأ السلطة، وهي هنا لم تتعلم دروس تبادل السلطة "تحت سلطة الاحتلال" وفقا لمعايير صناديق الاقتراع الديمقراطي. والثانية أصرت على أن تكون حركة دينية قائمة على مبدأ أن الحاكمية لله، ولم تتعلم أن تكون حركة سياسية وطنية تقوم على مبدأ التحرير ومبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، ولكننا متفائلون ونذيع نبأ نهاية الانقسام ونبشر بوحدة وطنية واتفاق وطني على الساحة الفلسطينية وقد بات على مشارف التوصل إليه بإذن الله بعد أن أدركت الأطراف الفلسطينية بأنها الخاسر الوحيد لاسيما بعد مجزرة غزة الأخيرة. نعم لقد آن الأوان للمصالحة الجادة ووضع نهاية لحالة البؤس والضياع بأن نقف أمام التحديات التي تعصف بالقضية الفلسطينية يداً واحدة والاتفاق على رؤية وموقف وطني موحد جوهره كامن في ثقافة المقاومة بكل أشكالها المتعددة وتحديد بوصلتها في الزمان والمكان المناسبين، في إطار الرضا المحلي والدولي لكسب الدعم والتأييد لنحظى بالشرعية وكنس الاحتلال. "عامل القلق يبقى هو المخيم على شبح المنطقة أمام معطيات الانتخابات الإسرائيلية للكنيست الإسرائيلية التي جاءت وسط اهتمام محلي وإقليمي لتكشف القناع عن حقيقة الوجه الإسرائيلي الإرهابي المتعنت، دولة وشعباً. والتي انكشفت بعد ارتكاب المجزرة الرهيبة في قطاع غزة في توقيتها المتزامن مع الانتخابات لتؤكد أن الدم هو ثمن ورقة الانتخاب". سر الصمود يتساءل كثيرون عن سر صمود الشعب الفلسطيني، في وطنه وأرضه؟؟ مستشهدين بسكان قطاع غزة، الذي تعرض لأكثر مما تعرضت له "ستالينغراد" على يد النازي، حيث لم يكتف الصهاينة باستعمال أحدث الأسلحة، من طائرات وصواريخ ومدفعية، وإنما استعملوا الأسلحة المحرمة "الفسفور الأبيض" وقنابل "الدايم"، التي تؤدي إلى الموت المحقق. ولإيضاح الصورة أكثر، أو لنقل الحقيقة، فإن هذا الشعب تعرض على مدى 60 عاما، لسلسلة من النكبات والمآسي، وحروب الإبادة، والمذابح على يد الصهاينة النازيين، أدت إلى تشريد أكثر من 60 بالمئة إلى أربعة أرجاء المعمورة، وإلى استشهاد أكثر من نصف مليون وإصابة حوالي 600 ألف بجروح، ودخول عشرات الألوف سجون العدو من عام 1967 وحتى الآن، حيث لا تجد بيتا في فلسطينالمحتلة لم يدخل أحد من أبنائه المعتقلات الصهيونية، مع العلم بأن عدد الأسرى في سجون العدو يبلغ الآن أكثر من 11 ألف سجين. إن من تابع حرب الإبادة، التي شنها العدو الفاشي، على أهلنا في القطاع، واللقاءات التي كانت تبثها الفضائيات، من أرض غزة المحروقة، مع من نكبوا بتدمير بيوتهم، أو موت ذويهم، يجد عبارة واحدة، تكررت على لسان الأطفال اليتامى، والنساء الثكلى، والشيوخ الذين لم تهزم النكبات المتتالية.. "لن نغادر وطننا، وسنبقى مزروعين في الأرض". هذا الصمود في الوطن، هو الكابوس الذي يطبق على العدو، حيث أن استراتيجيته والهدف الرئيسي للمذابح التي ارتكبها وسياسة التطهير العرقي، التي برع فيها كل ذلك، يستهدف طرد الفلسطينيين من وطنهم، والحفاظ على نقاء الدولة اليهودية، كما صرحت الأفعى، تسيبي ليفني. وفي هذا الصدد، تؤكد هآرتس أن عودة اللاجئين كانت الكابوس الذي يؤرق "اشكول" خلال فترة رئاسته في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وتستذكر أنه جمع ذات يوم الحكومة، وقادة الجيش طارحا السؤال التالي: "ماذا ستفعلون لو قام اللاجئون في قطاع غزة باقتحام الحدود، والعودة إلى مدنهم وقراهم التي طردوا منها؟؟" في ضوء الأوضاع الصعبة التي يعيشونها، تناثرت الإجابات، وكان رد الجنرال رابين، وكان حينها، رئيسا للأركان: "سنطلق النار عليهم، لإجبارهم على الرجوع من حيث أتوا". ونعود من حيث بدأنا، فصمود الشعب الفلسطيني في وجه أشرس عدو استئصالي، عرفه التاريخ، يمتهن القتل وسفك الدماء، هو درس لهذا العدو قبل غيره، فهو دليل أكيد على حبه لوطنه، وإصراره على التمسك بهذا الوطن المقدس، وطن الأقصى، قبلة المسلمين الأولى، مسرى الرسول ومعراجه إلى السماء، وثالث الحرمين الشريفين، وأرض المحشر والمنشر، الذي ورثه عن آبائه وأجداده، وعبر رحلة تاريخية عمرها أكثر من ستة آلاف عام تصل إلى كنعان، فلقد عرفت فلسطين كافة الأمم القديمة من رومان، يونان، اشوريين، فراعنة، هكسوس، عبرانيين، وكلهم عبروا، وأصبحوا مجرد كلام عابر. باختصار.. يقول شاعر فلسطين الخالد محمود درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". ونقول ما يستحق الصمود والتضحية والاستشهاد.