كانت القضية التي اتهم فيها العقيد عميروش آيت حمودة، بتصفية إطاراته مؤامرة دبرتها المخابرات الفرنسية من أجل القضاء على الثورة الجزائرية والنيل من عميروش، وتفنن المؤرخون الفرنسيون في تأليفها ليحمّلوا العقيد عميروش مسؤولية الإعدامات التي وقعت بصفته كان قائدا للولاية الثالثة (تيزي وزو). بدأت قضية "الزرق" بقدوم فتاة من العاصمة اسمها (روزا) من أجل طلب التجند في صفوف جيش التحرير الوطني، إلا أنه ومن خلال تصرفاتها أثارت الشكوك ووضعت رهن الاعتقال وتعرضت للاستجواب، إلى أن اعترفت أنها كلفت من قبل النقيب "ليجيه"، مسإول مكتب الاستعلامات والاتصالات للولاية الثالثة للاتصال ببعض الضباط، ومن هنا بدأت حملة "الزرق". احتار عميروش في الأمر، وكان يشعر باستياء كبير من هول ما يحدث بعدما أقنعه المسؤولون بوجود "مؤامرة" ضد الثورة، فرسم خطة لردعها باتخاذه بعض الإجراءات، منها وقف التجنيد، إقامة مركز استجوابات في غابة "أكفادو"، تعيين فوج يسهر على أمن ونقل المشتبه فيهم، إنشاء محكمة لمعاقبة الخونة، وغير ذلك، حدثت خلالها اعتقالات عشوائية في وسط الضباط والمحافظين السياسيين، وعدد من مسؤولي المصالح الملحقة، مثل المنظمة السياسية الإدارية، ونادرا ما مست هذه الإجراءات الوحدات القتالية، وتمكنت المخابرات الفرنسية من زرع "الشك" وسط أعضاء جيش التحرير الوطني وتحوّل كل واحد إلى جاسوس على الآخر، وسرعان ما اكتظ مركز الإستنطاقات بالموقوفين وكان لابد من الإسراع في معالجة الملفات لفسح المكان للقادمين الجدد. كانت الاعترافات تنتزع بواسطة التعذيب ونفذت حالات إعدام، كان عميروش مقتنعا بوجود مؤامرة، وأمام استفحال الظاهرة استدعى هذا الأخير كل الإطارات والجنود لتجمع كبير في "أكفادو" لإخبارهم ومعرفة موقفهم، وذلك من باب الحيطة والحذر والشورى حتى كما قال هو لا يُذكر اسمه غدا أي بعد الاستقلال أمام التاريخ كواحد من مجرمي الحرب، ولاقى في الاجتماع تأييدا واسعا من الأصوات التي شجعته في عملية مكافحة "الزرق". كانت المجزرة رهيبة وكان المشهد مقرفا، لأنه لم يخطر على بال الذين كانت غايتهم الاستشهاد من أجل حرية الوطنو أن يموتوا مذبوحين أو مشنوقين على يد إخوانهم في الجهاد. وذهب البعض إلى القول إن قائد الولاية الثالثة، ومن معه من الضباط الذين أيدوه، قد أصيبوا بالجنون، وهم يظنون بذلك أنهم يشرّفون الثورة وينقذونها، وأنهم مطالبون بمحاربة الخيانة والدفاع عن مصلحة الثورة. ما زاد في تأزم الوضع، وربما الخطأ الذي ارتكبه عميروش، هو إعطاؤه للمجاهد الملقب ب "إيشمان"، كل الصلاحيات في التصدي لمؤامرة "الزرق"، وكان هذا المجاهد محبا للثورة وللوطن، إلى حد الإفراط والغلو، وكان غيورا على كل ما له صلة بمهمته المقدسة، لاسيما وقد كان يضرب به المثل في الانضباط. اشتهر "إيشمان " بين المجاهدين بصيحته "بطيح"، وهي طريقة كان "إيشمان" يحبذها في معاقبة الجنود قليلي الانضباط أو المتعنتين، فيأمرهم بالقيام بحركات انبطاحية معروفة إلى حد الإنهاك، وبهذه الميزة عَيّنَهُ عميروش رائدا ثانيا ضمن الفريق الذي شكله لإدارة لجنة التحريات المكلفة بكشف المتورطين في المؤامرة وتوقيفهم. تضررت الولاية الثالثة (تيزي وزو) كثيرا بفعل هذه المؤامرة، لأن العدو الفرنسي كان يريد أن يُرَكّعَ الولاية ويدمر معاقل جيش التحرير الوطني، ويوجه له الضربة القاضية وعلى رأسهم العقيد عميروش الذي كان مستهدفا من طرف أجهزة الاستخبارات الفرنسية لتصفيته بأي ثمن، وأعدت له مخططات كبيرة أسندت إلى النقيب "ليجيه"، وكان هذا الأخير في فرقة المظليين الأجانب، شارك في حرب "الهند الصينية"، حيث برز اسمه في مجال التعذيب والإعدامات الجماعية، وعلى هذا الأساس عين قائدا لمكتب الاستعلامات والاتصالات (BEL) الخاص بالولاية الثالثة، واقتصر دوره في اقتفاء أثر عميروش من بعيد وتتبع تحركاته ونصب الكمائن له، مستعينا في ذلك ب "القومية والحركى" من الخونة الجزائريين،ومنهم "جلال رمضان" الملقب ب "اللاجودان"، لكن النقيب فشل في كل محاولاته في الحصول على المعلومات، لأن عميروش كان محبوبا عند الشعب، كما فشلت بعدها مساعي الجنرال "غراسييه" مع فرقته التاسعة للمشاة في الإطاحة بعميروش. نظرا للأصوات العديدة التي تجنت على العقيد عميروش تتهمه بتصفية إطاراته، في هذه المؤامرة، يكشف المجاهد "رشيد أجعود" وهو الشاهد الوحيد على هذه القصة، مع الرائد (سي حميمي فاضل)، أن قصة "الزرق" كانت عملية تجسسية دبرتها المخابرات الفرنسية، وتم إحباطها بفضل يقظة عميروش وجاءت هذه المؤامرة كون الجيش الفرنسي تلقى ضربات قاسية من الولاية الثالثة، التي تعد الفترة الذهبية التي شهدتها "معركة الجزائر"، موضحا أنه عندما فشل العدو في هزم جيش التحرير الوطني في هذه الولاية، لجأ مظليو "بيجار "إلى تجريب الاختراق والتجسس. اكتشاف هذه المؤامرة تم بعد اختفاء الضابط السياسي (سي الحسين صالحي)، ويكشف المجاهد "أجعود" ما صرحت به الفتاة (روزا)،ومهمتها التي كلفت بها في الاتصال بضابط في جيش التحرير يدعى "سي العربي"، وتم توقيف هذا الخائن الذي كان له جهاز إرسال، واعترف أنه يعمل لحساب مصالح الاستخبارات الفرنسية منذ 1946، كاشفا كيف دبر اختطاف الضابط الأول "سي الحسين صالحي" رفقة النقيب ( ليجيه) الذي وصل مع فرق "كومندوس الحركى" وعساكر فرنسيين متخفين بزي مجاهدين من الولاية الرابعة، ومن ثم شكّل عميروش آيت حمودة لجنة تحقيق وإنشاء المحكمة لمعاقبة الخونة وتصفيتهم. برهن العقيد عميروش آيت حمودة للرأي العام الدولي، أن الشعب الجزائري ليس كما وصفته فرنسا، مجموعة من العصابات والخارجين عن القانون، وغيرها من الدعايات التي كانت تروجها الصحافة الفرنسية، بل مكافحين من أجل الاستقلال، ذلك من خلال معاملته الحسنة للأسرى. وكان أول أسير عند عميروش المعلم "لاكلاند laglande " و"مونييه meunier "من مدرسة"الفلاي"ب "سيدي عيش" ببجاية في عام 1956، وعندما أطلق سراحهما أبلغا الرأي العام الفرنسي بحقيقة الثورة الجزائرية ومعاملة الجزائريين لهما، نفس الشيء كان بالنسبة للبعثة التبشيرية التي استقرت في إيغيل علي (أقبو)، أو كما يسمونهم ب "الآباء البيض"، على أساس تعاونهم مع مصالح الاستخبارات الفرنسية. واستنادا لشهادة عبد الحميد جوادي، ضابط سابق في جيش التحرير الوطني، تم توقيف الأب "جوزيف أيلو"، وهو عضو في البعثة الكاثوليكية، اقتيد هذا القسيس إلى الجبل ومكث فيه 45 يوما بين المجاهدين دون أي مشكل، وكان مرتاحا بينهم واطمأن إليهم لدرجة أنه أصبح يتكلم بكل حرية معهم، وأدرك أن فرنسا كانت ظالمة في اعتدائها على الشعب الجزائري. وعندما أطلق سراحه، عقد ندوة صحفية، مدافعا فيها عن جيش التحرير الوطني، وكانت شهاداته متناقضة تماما لما بثته دعاية للأجهزة الفرنسية، فقامت بِدَحْضِهِ دحضا ونفيه إلى فرنسا، وهناك اعتكف الأب "جوزيف أيلو" في مسقط رأسه في مقاطعة بريطانيا، حاملا معه ذكريات لا تنسى عن الثورة الجزائرية، لتأتي قصة عميروش مع القسيس الإنجليكاني "ليستر غرفيث" الذي اقتيد ومكث هو الآخر عدة أشهر، في مركز قيادة الولاية، أعجب هذا القسيس بشخصية العقيد عميروش ومساعده الطاهر عميروشن أمين الولاية، ونشأت علاقة حميمية بينه وبين عميروش، الذي أهداه "ساعته" كذكرى. وكانت نظرة عميروش إزاء هذا التصرف بعيدة المدى، أراد من خلالها أن يوصل صوت الثورة الجزائرية إلى أمريكا، وعيا منه بالوزن الدولي الذي تمتع به الولاياتالمتحدةالأمريكية، وقد وصل صوته فعلا إلى أقاصي أمريكا الشمالية، وكان له ما أراد. فعندما أفرج عن القسيس "ليستر غرفيث"، نزل في سويسرا وعقد أول ندواته الصحفية، فقام بحملة دعائية للثورة الجزائرية ولسفراء الحكومة المؤقتة، وخرجت الصحافة الدولية والمجلات بعناوينها "أمريكي لدى الثوار الجزائريين"، وتداول هذه الحملة الرئيس الأمريكي "جون كينيدي" للدفاع عن القضية الجزائرية عندما كان سيناتورا، وقبل أن ينتخب رئيسا. وبعد الاستقلال، عاد القسيس "ليستر غرفيث" إلى الجزائر، وهو لا يزال واضعا ساعة عميروش في يده. ويسوق المجاهد عبد الحميد جوادي، مواقف كثيرة للعقيد عميروش آيت حمودة مع أسرى "الحوران"، وهم 13 جنديا وقائدهم الملازم الأول "ديبوس"، ومعاملته الطيبة لهم، وهي الشهادة التي أدلت بها "آنجليس" عندما كانت أسيرة هي وزوجها وكيف أحيطت بالعناية من قبل نساء جيش التحرير الوطني،حسب ما رواه (كلود بابا) في كتابه "ملف الجزائر السري". "إن الانقسام قد يترتب عنه عواقب وخيمة، فبدلا أن نتحد لدعم ومساعدة حكومتنا، التي لا تزال غير مستقرة، أنتم تريدون أن تبتعدوا عنا"، تلك هي الرسالة التي بعثها العقيد عميروش إلى علي كافي، عندما رفض حضوره الاجتماع، الذي أقامه العقداء بالولاية الثانية، التي هو قائدها، وكان موقف العقداء بأن غياب علي كافي "لم يكن يخدم الثورة". يصرح المجاهد "جودي أتومي" ضابط في جيش التحرير الوطني، عن العداوة التي كانت تربط "علي كافي" بالعقيد "عميروش آيت حمودة" بسبب الحقد الذي كان يكنه الأول للثاني. فأثناء رحلة العقيد عميروش آيت حمودة إلى تونس، مرّ بالولاية الثانية وقاعدة الشرق، وكانت له الفرصة للتعرف على العديد من مسؤولي الشمال القسنطيني، لم تكن الاتصالات مع الولاية كثيفة، مثلما كان الحال مع الولايات الرابعة (العاصمة) والسادسة (الصحراء)، لكن أتيحت له مع ذلك فرصة للالتقاء بمسؤولي الولاية الثانية،لاسيما منهم العقيد "علي كافي" قائد الولاية الثانية و"لمين خان". وبتاريخ 29 نوفمبر 1958، عقد العقيد عميروش آيت حمودة اجتماعا هاما، من 06 إلى 12 ديسمبر من نفس السنة، في "أولاد عسكر" بجبال القل، حيث جرى لقاء بين العقيد عميروش ممثلا للولاية الثالثة، والعقيد سي لخضر من الولاية الأولى، والعقيد سي أحمد بوڤرة من الولاية الرابعة، والعقيد سي الحواس بن عبد الرزاق من الولاية السادسة، ماعدا الولاية الخامسة التي كان مركز قيادتها في المغرب. والغريب أن الاجتماع أقيم فوق تراب الولاية الثانية، وقائدها الذي هو علي كافي لم يكن حاضرا ولا يوجد إلى حد الآن حسب صاحب المذكرة التي تحوز "الأمة العربية" على نسخة منها تفسيرا واضحا أو مبررا لغياب علي كافي، ولا أحد كان بوسعه آنذاك أن يحدد أصل ومصير هذا التنافر بين قائد القبائل وقائد الشمال القسنطيني، غير أن الجميع آنذاك كان يشير إلى وجود نوع من الحسد والحقد على العقيد عميروش، كون هذا الأخير كان مسؤولا تقريبا على ولايات الشرق والوسط، فضلا عن كونه مكلفا بمهمة من قبل لجنة التنسيق والتنفيذ، وربما كونه أيضا جمع حوله معظم قادة الولايات، مثل الأوراس والجزائر والصحراء، أي الولاية السادسة، ولا ينقص في سجله سوى الشمال القسنطيني. ووصل حقد علي كافي على عميروش كما قال "جودي اتومي"، لدرجة أنه كتب في مذكراته: "إن عميروش بتنظيمه هذا الاجتماع، كان يطمح للارتقاء إلى قيادة الثورة"، رغم أن الجميع يعرف أن العقيد عميروش لا تستهويه السلطة، وبالتالي الأمر لا يعدو أن يكون حسدًا، لأنه ببساطة اجتماع أربعة من نظرائه في عقر داره، ودون حضوره، يمثل في نظر المراقبين إهانة واحتقارا،من شأنه خاصة بعد ادعائه أن قادة الولاية الخامسة، رفضوا حضور الاجتماع، والحقيقة هي أن الإخوة في هذه الولاية لا يستطيعون عبور كل التراب الوطني من أقصى الحدود الجزائرية المغربية إلى وسط الشمال القسنطيني. ولقد عبّر المشاركون في الاجتماع عن أسفهم العميق لغياب قائد الولاية الثانية، وكتب له العقيد عميروش قبل مغادرته الشمال القسنطيني، الرسالة التالية وهي مدونة في مذكرات علي كافي (19421962) يقول فيها عميروش ما يلي: "تلقيت الرسالة التي تعلنون فيها رفضكم لدعوتنا، بحجة أنكم مشغولون، وليس حسنا ما فعلتم. كنتم على مسافة ثلاث ساعات مشيًا من المكان،الذي عقدنا فيه الاجتماع، ولم تكلفوا أنفسكم عناء المجيء لرؤية سي أمحمد وسي أحمد بن عبد الرزاق قائدي الولاية الرابعة والسادسة، لاسيما وقد قضوا شهرين في السير. ورغم طول المسافة، كلفوا أنفسهم عناء المجيء، في ظنهم أن الاجتماع سيأتي بفائدة، وذلك ما حدث يضيف العقيد عميروش في رسالته التي كتبها إلى علي كافي بالقول وبالفعل، أعتقد أنه أتى بفائدة بعد دراسة معمقة للشؤون الداخلية والخارجية، اتضح بأن الولايات في وضعية حرجة"،موضحا له في ذات الرسالة قائلا: "إن الانقسام قد يترتب عنه عواقب وخيمة، فبدلا أن نتحد لدعم ومساعدة حكومتنا، التي لا تزال غير مستقرة، أنتم تريدون أن تبتعدوا عنا"، ونبهه بأنهم يحاربون عدوا يصعب الانتصار عليه حتى لو كانوا متحدين ومتكافلين، فكيف إذا عمت "الفتنة"... إلى آخر الرسالة.