أستغرب في كثير من المرات منهج نقد واقع التأليف والنشر بالجزائر الذي يسلكه بعض المختصين، وهم يتناولون الواقع المزري لقطاع أعلته الأمم المحترمة، كما لم تعل قطاعا تنمويا من قبل، لقداسته ومحوريته في النهوض الحضاري والفكري بالأمة، وهذا حين يحصرون إشكاله الجزائري، في غياب المقروئية وانعدام سوق ثقافية يستطيع الكتّاب التمعن بها، في حين أن الأزمة أغور وأعوص من ذلك بكثير الكثير. الإخفاق في الاستدراك إذا كانت الدولة الجزائرية قد حاولت استدراك ما سبق وأن اقترفته من زلل تنموي، كانت تداعياته مزلزلة لبنى المجتمع فيما تلا من سنوات الاستقلال، وذلك عبر توفير بعض آليات وأدوات التطور، فإنه لا مناص من تأكيد زللها ثانيا في طرائق تفعيل تلكم الآليات وسوء اختيار الجهات التي أنيط بها ذلك، خصوصا إذا ما تعلق الأمر بمحور أدوات التنمية، وهو الإنسان، لاسيما في حقله العقلي أي الثقافي. فسياسة دعم النشر والتأليف التي اتبعتها الدولة بعد إدراكها بكارثية خطأها السابق بالعزوف عن هذا الجانب، لم تكن هي الأخرى بأقل كارثية، بعد أن اقتحمها سماسرة الكلمة ومروجو فتنة الأفكار والمتاجرين بقيمة الكتاب من مختلف المشارب والمذاهب. دعم الكتاب أم دعم الاكتساب؟! الملاحظة الأولى التي يمكن الوقوف عندها كسلبية من سلبيات الجهات المسؤولة في دعم التأليف والنشر بالجزائر؛ هي نظرتها لهاته الأزمة من زاوية مادية مصرفية محضة، ومن ثمة السعي للتصدي لها عبر ضخ أموال طائلة إلى المؤسسات المنوطة بتحريك عجلة النشر والطبع والتأليف، رغم أن هذه المؤسسات كانت هي أولى نقاط المعالجة والاصلاح قبل أن تناط بهكذا دور، وقبل أن تلقى أموال الشعب لتعبث بها وتعيث فيها فسادا. إن التعاطي المالي وحده مع أزمة الكتاب بالجزائر، تأليفا ونشرا وتسويقا، بالشاكلة التي تم بها، أضاف إلى الأزمة أزمة أخرى مست أخلاقيات المهنة وأضرت بسمعة الكثير من أهل القلم، الذين انسلخوا من حرفية الكلمة وانقلبوا إلى وسخ الصراع المادي، فاسدين مفسدين تحت مظلة جمعيات وطنية وولائية، يتلقفون خزعبلات من يزعمون أنهم كتّابا واعدين، فيطبعونها على نفقة الصناديق التي أنشأتها الدولة، ليهدوا الكتاب هؤلاء نسخا من كتبهم!! ثم يقومون بتسويق البقية إلى المؤسسات التعليمية والجامعية، فتريعوا من منبع حلمي ما توقعوه في مناماتهم ويقظاتهم في السابق قط. لا رقابة القبلية ولا متابعة بعدية! وحتى تمكن العناصر من تحقيق لصوصيتها وهي تستهدف خيرات الصناديق العمومية الداعمة للكتاب، راحت تجيش الكثير من الأقلام لتشن حملة مسعورة على كل مبادرة من خطبها التمييز بين الغث والسمين في الأعمال المرشحة للطبع، وهذا تحت ذريعة رفض الراقبة على الأعمال الفكرية والإبداعية كونها من أعمال شياطين الدكتاتورية والفكر الأحادي، وهي كما نعلم كلة حق أريد بها باطل. صحيح لا نقبل أن العودة إلى أي شكل من أشكال الرقابة على الأعمال الفكرية والإبداعية، لكن هذا لا يعني أن ترك الحابل على الغارب ونسمح لكل من هب ودب أن يدنو من حقل أخطر من أي حقول التنمية الأخرى ليفسد فيه ويقتات من على ظهره بالوسائل غير المشروعة. فكان حريا أن تتابع أعمال المؤسسات أو الأشخاص المستفيدين من نفقات الصناديق، وذلك من خلال إجبارها على تقديم أعمالها للتقييم البعدي عبر ندوات ومجالس معتمدة وعلى ضوء نتائج تعاطي تلكم المجالس يتم الحكم على مجهود تلكم الجهات وعلى مستقبلها في معاودة الاستفادة من الصناديق العمومية الداعمة للنشر، ومن خطب إجراء كهذا مثلا أن يعطي ثمارا أخرى عدا فرض الرقابة البعدية على المنتج الفكري والأدبي بما يمنع تكريس الرداء في الساحة الإبداعية، منها خلق فضاءات ومناظرات فكرية تثري ساحتنا الثقافية وتعطيها الحيوية التي تستحق. الشللية الأيديولوجية.. ومحنة الإقصاء ثمة إشكال مهول يعرقل سريان مهمة الصناديق المستحدثة لدعم الإبداع وفق ما تقتضيه الطبيعة العمومية لهاته الوظيفة، ويتعلق الأمر هنا بقناعات أصحاب الشأن من متولي أمر هاته الصناديق الذين لا يلتزمون في الكثير من المرات بالخصائص الفكرية والثقافية والفنية منوطة بهم في اختيار الأعمال المودعة في مصالحهم للطبع، وتراهم يميلون إلى إعطاء الأسبقية لمن يقاطعونهم في القناعات الفكرية والأيديولوجية ويقصون ما دون ذلك بحجة عدم استيفاء الشرط الفني!! فكثيرة هي الأعمال التي فوجئنا برفضها، مع أنها إن لم ترق إلى مستوى الشرط الفني مثلما يدعون على فرض أن ثمة سقف فني يصار إلى الحكم به، فإنها لتفوق الكثير من الأعمال التي لقيت الدعم والنشر من طرف مسؤولي لتك الصناديق التي تمول بخير الشعب لا بخير جهة أخرى! إن هذا الحكم الأيديولوجي الإقصائي على النصوص، من خطبه أن يؤس لأزمة مصداقية أخرى في الوسط الثقافي الوطني والنحبوي منه على الخصوص، ويسبب بذلك شرخا آخر في العلاقة الثقافية بين مكونان المشهد الثقافي الوطني قد يمتد لزمن طويل نحن في غنى عنه بعد الويلات التي انجرت على ظاهرة الاحترابات الفكرية والأيديولجة طيلة ثلاثة عقود من الاستقلال كلفتنا الدم والدموع وأزمنة من الضياع والارتكاس إلى الخلف. مدراء دور الثقافة وفرصة الاستقلالية المالية قيل مثلا مؤخرا، إن وزارة الثقافة خصصت أغلفة مالية لدور الثقافة عبر الوطن كي تطبع خير أعمال الشباب في كل ولايات الوطن، طبعا مبادرة كهاته تبدو في جانبها الشكلي ممتازة وتسهم ولا شك في إبراز قدرات الولاية الإبداعية، لكن المشكل يظل عالقا في التفاصيل، إذ في التفاصيل يلعب المفسدون لعبتهم، ويفسدوا بالتالي المبادرة ويفرغونها من محتواها الإيجابي. فما هي المقاييس المعتمدة لتأهيل هذا العمل على حساب ذلك للطبع؟ هل ثمة لجان تقيمية ذات مصداقية وتعمل في شفافية من أجل ذلك؟ لماذا لا تعرض المنتجات على مجالس مفتوحة للنقاش أمام الأشهاد وعقب بنقاشات، ما يسمح بالموازاة مع ذلك بظهور حراك ثقافي عوض أن تظل تلكم الدور مغلقة على غير أنشطة هامشية ليست ذات قيمة في تحريك الفعل الثقافي الذي تستجديه الأمة. بعض مدراء دور الثقافة استغلوا استقلالية هذا المؤسسة ماليا، وصاروا يتصرفون بأموالها كما لو كانت لهم، فبعضهم راح يحابي أصحابه من أشباه الكتّاب ليطبع له مذكرة تخرجه من الجامعة مرت عليها الأعوام والسنون في ظلمة غرفة نومه، في حين ترفض فيه أعمال روائية راقية كانت ستسهم ولا شك في الارتقاء بمستوى الإبداع الأدبي بالمنطقة، فمن سيعيد للكاتب حقه في ظل تواجد أناس من غير أهل القطاع على رأس مؤسسات ثقافية تخدم كل شيء، إلا قطاع الإبداع والثقافة، وصدق الصادق المصدوق حين قال: "إذ أسند الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة".