يُفضل غالبية الأطباء والجراحين ممّن يشتغلون بالقطاع العمومي بوهران، وعلى اختلاف مستويات درجاتهم، والشهادات التي يحملونها، التحوّل للعمل إلى القطاع الصحي الخاص، وذلك على مستوى العيادات الجراحية البالغ عددها 23 عيادة، والتي عرفت انتشاراً واسعاً خلال العشر سنوات الأخيرة، نظير التسهيلات التي منحتها الدولة للراغبين في فتح هذا النوع من العيادات، إلاّ أنّ كثرة الشكاوى من طرف عشرات المواطنين، جراّء كثرة الأخطاء المهنية التي أدّت في بعض الحالات إلى الوفاة، والعاهة المستديمة، دفعت بالوزارة الوصية إلى إعادة النظر في القوانين المنظمة للقطاع الصحي الخاص، وفرض رقابة على الأطباء العموميين، فضلاً عن سنّ قوانين صارمة تَمنع في مُجملها اشتغال الجراحون بالعيادات الخاصة، موازاةً مع مزاولة نشاطهم بالمستشفيات العمومية. "الوطني" أجرت تحقيقا ميدانياً، سلطت فيه الضوء على جوانب عدّة من هذا الملف، بدءا بالتخصصات الّتي يكثر عليها الطلب بالقطاع الخاص، والتي تعدّ نادرة، مروراً بالرواتب الشهرية للعاملين بالقطاع العمومي للأطباء المقيمين والمحاضرين، وأهم الإغراءات والامتيازات الّتي يمنحها مالكي العيادات الخاصة لهؤلاء للظفر بخدماتهم، وصولاً إلى أشهر الأخطاء المهنية الطبية المُرتكبة على مدار الأعوام الفارطة، وحديثا داخل أقسام هذه العيادات، وتوصلت "الوطني" من خلال هذا التحقيق، إلى اكتشاف بعض الأرقام المُتعلقة بأعداد الأطباء، والنقص الفادح المُسجل في بعض التخصصات الجراحية، حيث يوجد بمستشفى وهران طبيب جراّح واحد لكل 260 مريضاً، في حين عرف المستشفى الجامعي لوحده مغادرة أزيد من 60 طبيبا جراحا، تركوا مناصب عملهم خلال الثلاث سنوات الأخيرة، مخلفين وراءهم نقصا كبيرا في أقسام الجراحة، وذلك لأسباب مُتباينة تتقاسم في مجملها، في تفضيل هؤلاء مُمارسة تخصصاتهم الطبيّة باستقلالية، من خلال بلوغ الهدف المنشود، المُتمثل في فتح "عيادة خاصة"، ويكشف التحقيق كذلك، النقاب عن حرص وزارة جمال ولد عبّاس فرض الرقابة، الدائمة على أصحاب المآزر البيضاء، والّتي جسدتها آخر تصريحاته، التي كانت عبارة عن رسائل مُشفرة وجهها للأطباء المالكين للعيادات الخاصة بأنّه لا مناص من التساهل مع مزدوجي الوظيفة بالقطاعين. وآخر المعلومات التي استقتها "الوطني" خلال تحقيقها، تفيد بأنّ وزارة الصحة رخصت للأطباء العمل بالقطاع الخاص شريطة التصريح بمنحة "تقاسم الأرباح"، الّتي تفتك منها الوزارة نسبة مالية. 45 شكوى تفيد بتعرض مرضى إلى مضاعفات صحيّة بالعيادات: وذكرت مصادر على اطلاع من مجلس أخلاقيات الطب بوهران، أنّ عدد الشكاوى الّتي استقبلها المجلس خلال الثمانية أشهر الأولى من العام الجاري، تفُوق ال 45 شكوى تتعلق أغلبها، بتعرض أشخاص إلى مضاعفات صحيّة بعد أن وقعوا ضحايا للأخطاء الطبية، وأخرى تتعلق بأشخاص تعرضوا للإهمال الطبي من طرف أصحاب المآزر البيضاء، حيث وفي رحلة البحث عن الأسباب الّتي تكمن من وراء كثرة الأخطاء الطبيّة، تؤكد مراجعنا أنّها ناتجة عن الإهمال. 60 بالمائة من الأطباء الجراحين يفضلون العمل بالقطاع الصحي الخاص: ويُفضل أكثر من 60 بالمائة من الأطباء الجراحين بوهران التحوُّل من المستشفيات العموميّة إلى القطاع الخاص، وذلك لتحقيق عدد من الأهداف ذات صلة مباشرة بالجانب المالي، حيث تمكنّا من التوصل خلال هذا التحقيق إلى تحديد الرواتب الشهرية للعاملين بمختلف الأقسام والأجنحة الطبية بمستشفى وهران الجامعي، حيث يعتبر راتب طبيب مُقيم ،الأصغر بالقطاع الصحي العمومي، والذي يصل إلى 35 ألف دج، فيما يتحصل ممارسو الصحة العمومية على راتب ما بين 35 إلى 45 ألف دج، ولا يتجاوز طبيب مساعد أجر 25 ألف دج، وتكمن المفارقة الكبيرة في الرواتب التي تمنحها وزارة البحث والتعليم العالي مقارنة بتلك التي تمنحها وزارة الصحة، ومنها المذكور آنفاً، في وقت يتقاضى أستاذ في إحدى المقاييس الطبية التي تدرس بالجامعة ما بين 60 إلى 70 ألف دج، ويصل الراتب الشهري الأعلى لأستاذ محاضر يدرس بالجامعة إلى 15 مليون سنتيم شهرياً، لتبقى بذلك عوامل أخرى تدخل في تحديد الرواتب الشهرية كتلك المتعلقة بالأقدمية والخبرة في الممارسة الميدانية، وبعملية مقارنة ما بين سلم الرواتب بين ما تمنحه وزارة جمال ولد عباس ووزارة حراوبية، نجد أنّ الفرق شاسعاً بين القطاعين، وهو سبب رئيسي يدفع بالأطباء الغير المعنيين بالتدريس إلى التوجه إلى العيادات الخاصة. ونذكر في هذا الصدد كذلك، أنّ منحة المناوبة الليلية لطبيب مختص لا تتجاوز 700 دج في المناوبة الواحدة. توليد النساء والجراحة العامّة أكثر التخصصات المطلوبة بالعيادات الخاصة: وتذكر مصادر "الوطني"، أنّ أكثر التخصصات التي ربّما تدفع بالأطباء العاملين بالقطاع العمومي إلى مغادرة المستشفيات، والتحوّل إلى القطاع الخاص، تتمثل في أمراض النساء والتوليد زيادة على الجراحة العامة، بالنظر إلى أنّ أعداد المتخصصين في هذا المجال بوهران، أقل من غيرهم في تخصصات أخرى، حيث تمنح العيادات الخاصة امتيازات لاستقطاب أطباء وحتى ممرضي التخصصين المذكورين والتي يتصدرها تخصيص راتب شهري يتجاوز 10 ألاف دج، ناهيك عن أنّ الأطباء يشتغلون فقط خلال مواعيد إجراء العمليات الجراحية أو خلال برامج المُتابعة الصحية للمرضى، في حين ينجذب الأطباء الجراحين إلى القطاع الخاص بالنظر للحجم الساعي، وعدد العمليات التي يجريها طبيب واحد بمستشفى وهران، حيث تؤكد مصادرنا أنّ 106 طبيب بالمستشفى ذاته يُشرفون على إنجاز من 45 إلى 50 عملية جراحية يومياً، ما يشكل ضغطا على هؤلاء يدفع بهم إلى مغادرة القطاع الصحي العمومي والبحث عن امتيازات القطاع الخاص والتي ذكرنا منها جزءاً.. القانون يمنع اشتغال الأطباء بالقطاعين العام والخاص في آن واحد: وتحرص الجهات المعنية ودوائر الرقابة التابعة لوزارة الصحة، على فرض عقوبات ردعية تُشكل فيها مواد القانون الفاصل في جميع الحالات، حيث تتراوح الإجراءات الردعيّة بحق الأطباء الذين يشتغلون خفية بالمستشفيات، وبالعيادات العمومية في آن واحد، بين الغلق المرحلي، وفي أقصى العقوبات وفي حالات التمادي اتخاذ إجراءات الغلق النهائي للمصحات التي يسيرها أطباء يعملون بالقطاع العمومي، وتردف ذات المراجع خلال التحقيق، أنّ آخر عقوبة صدرت بحق طبيب من وهران مختص في أمراض النساء والتوليد، كانت مؤخراً، وتمثلت في توقيفه عن العمل لمدة 10 أيام بعد أن غاب عن برنامج "مناوبة" ليلية بعد أن وردت معلومات تفيد باشتغاله بالقطاع الخاص موازاةً مع مهامه بالمستشفى، ليُقدم بعدها الطبيب على تقديم استقالته لإدارة المُستشفى، والتوقف بصفة نهائية عن أداء مهامه. وجاءت نصوص القانون المعدلة لسابقاتها في عهد جمال ولد عبّاس، لتغير بعض الشيء من العقوبات، وتستبدلها بخصم من منحة"تقاسم الأرباح" للعاملين من الأطباء بالقطاع الخاص، حيث يلزم هذا القانون كافة الأطباء بالتصريح بنشاطهم بالقطاع الخاص وقيمة المنح التي يُحصلونّها حتى يُفرض عليهم "الخصم" في شكل ضريبة إن صحّ التّعبير. أطباء ارتكبوا أخطاء مهنية فادحة بالعيادات الخاصة وبالمستشفى الجامعي: وكشفت مصادرنا أنّ تجاوزات عديدة مرتكبة على مستوى العيادات الخاصة، وأوردت مصادرنا أن اغلب هذه التجاوزات تتمثل في تحويل المرضى من المستشفيات إلى العلاج في العيادات الخاصة عن طريق جراحين يمارسون نشاطهم بهذه العيادات، إضافة إلى قيام عدد من العيادات الخاصة باستقدام أطباء من الخارج، خاصة من فرنسا، مقابل مبلغ مالي يقدر بألفي أورو لكل عملية يقومون بها. ومن أشهر الأخطاء المهنيّة التي اهتزت لها عاصمة الغرب الجزائري خلال العام المنصرم، حادثة البروفيسور "محمودي" رئيس مصلحة الجهاز الهضمي بالمستشفى الجامعي لوهران، حيث تعود وقائع القضية إلى 3 جويلية من سنة 2003 بعدما توفيت مريضة بمصلحة الاستعجالات، وكان وضعها الصحي يتطلب إجراء عميلة جراحية استعجالية، إلاّ أنّ الطبيب رفض ودخل في خلافات مع الأطباء العاملين معه الذين خالفوه الرأي وتوفيت المريضة نتيجة الإهمال، وتمّ تقديم الطبيب المذكور أمام العدالة وتمّت إدانته ب6 أشهر حبسا موقوفة التنفيد ،في وقت تمّ تسجيل أزيد من 45 خطأ طبيا منذ بداية العام المنصرم بمستشفى وهران وعياداته. وتُشكل العيادات الخاصة هي الأخرى، مسرحاً للتجاوزات التي يرتكبها الأطباء، أقلها سوء المُعاملة التي اشتكى منها عدد من المرضى في وقت سابق، على اعتبار أنّ هذه العيادات تخضع مقاييسها للمعاملات التجارية، ولا يمكن للمريض قضاء أكثر من ليلتين بأقسام الجراحة والإسعاف بالقطاع الخاص، مقابل الملايين التي يدفعها، وحدث أن تمّ تغيير براغي تثبيت العظام لشخص، ينحدر من الغرب الجزائري، كان قد شعر بآلام على مستوى ركبته التي كانت قد أجريت عليها عملية جراحية بفرنسا ووضع بها "براغي" من مادة الذهب، وبعد أن استنجد بإحدى العيادات الخاصة بوهران استبدل الطبيب الجرّاح تلك البراغي الذهبية بأخرى من مادة الألمنيوم، بحسب ما ذكرته مصادر "الوطني". وعلى صعيد آخر، فقد كانت محكمة الجنايات بوهران، قد برأت طبيب وممرضة يشتغلان بإحدى العيادات الخاصة، وجهت إليهما تهمة التسبب في مقتل رضيع حديث الولادة. في حين، فقد فقدت سيدة أخرى حياتها بإحدى العيادات الخاصة بوهران، بعد أن أجرت لها عملية قيصرية للولادة، ما أفقدها الكثير من الدم، إلاّ أنّ تهاون المُمرضين والأطباء جعلها تُفارق الحياة مُباشرة بعد إجراء العملية. الوزارة تتوعد المخالفين من الأطباء بعقوبات صارمة: وصرّح جمال ولد عباس مؤخرا، أنّه من غير المعقول وغير المقبول أن يقوم الأطباء المختصون بعملهم العادي بفحص المرضى، وإجراء العمليات الجراحية في عياداتهم الخاصة، والامتناع عن تقديم خدماتهم في المؤسسات العمومية بحجج مختلفة وواهية، وجاءت لهجة الوزير شديدة خلال آخر زيارة قادته إلى وهران في إطار الزيارات التفقدية، بعد أن تسلّم تقارير تكشف تحوّل مئات الأطباء العاملين بالقطاع العمومي نحو العيادات الخاصة وايلاءهم الأهمية القصوى، لهذه الأخيرة على حساب مهامهم الرسمية، على خلفية أنّهم معتمدين لدى الوزارة، في وقت تسجل أغلب المصالح الاستشفائية بالمستشفى الجامعي نقصا فادحا في الجراحين والمختصين، ليبقى بذلك "المواطن" المتضرر رقم واحد بين طموح أصحاب المآزر البيضاء في تحقيق الربح السريع وبين مساعي الدولة في إصلاح القطاع الصحي.