تحضرني صورتهم.. أولئك الأبناء الذين لا يتذكرون أمهم التي تركوها بالشهور من دون أدنى اهتمام، كانوا لا يسألون عنها ولا يتذكرونها بزيارة خفيفة بحجة انشغالهم، وهي التي كانت قلبا يحوي كل العطف لهم، ويدا تخفف آلمهم، وعقلا يرشدهم لما فيه الخير لهم. كانت طاقة تدفعهم إلى الأمام في صغرهم، ومعينا لهم في كبرهم، تذكروا حبها وكيف أنه كان حبا نقيا لا تخالطه شوائب الدنيا مثلما خالطت تلك الشوائب حبهم لها. الآن وبعد أن رحلت عن الحياة، بدأت عقولهم تستدعي الذكريات الطيبة، الآن يبكون أمهم بعد الرحيل، ويتمنون لو عاد الزمن إلى الوراء قليلا كي تتمتع ببرّهم، لكن هيهات، فمن رحل لا يعود من جديد، فهل أدرك الجاحدون ما يفعلونه بأحبتهم من ظلم شديد؟. في بيوت كثيرة نرى هذه الأمثلة، فنفجع بعقوق والدين، وظلم وتنازع شديدين بين زوجين، وحصار خانق وسوء ظن وعدم وفاء بالعهود بين صديقين، حتى إذا رحل الحبيب عن محبوبه، فإذا بالآخر يعضّ أصابع الندم، ويتمنى لو عاد الزمن إلى الوراء ليتمتع بمحبوبه من جديد، ولكن الزمن لا يعود، والمحبوبون حين يرحلون عن حياة من أرّقوهم، ربما لا يمكنهم العودة مهما حدث، فالموت لا يعيد الأحبة. أما الأحباء الباقون على قيد الحياة، فربما صارت قلوبهم أضعف من احتمال المزيد من الألم، وربما صارت نفوسهم في حاجة إلى الاستمتاع بجمال السكينة وهدوء وصفاء العلاقات، فلا يمكنهم العودة إلى علاقة كلها لوم وعتاب، وشدّ وجذب وكثرة مشاحنات. فحاولوا الاحتفاظ بأحبابكم قبل أن ترحلوا عنهم أو يرحلون عن حياتكم، ومتعوهم بجميل حبكم وجميل خلقكم، وتذكروا قواعد وفنون الحب، وأهمها أن حسن العشرة وحسن الخلق من أقوى ما يزيد المحبة توهجا، فإذا كان حسن الخلق قد جعل صاحبه من أقرب الناس مجلسا يوم القيامة لرسول الله «صلى الله عليه وسلم». فمؤكد أنه يقرّب الأحباب من قلوب أحبابهم في الدنيا، ويجعل الحياة بينهم هادئة هانئة، فلنحسن معاملة أحبابنا الطيبين، فالطيّبون جواهر يجب أن تصان وتُعامل معاملة الجواهر النفيسة لا معاملة المعادن الرخيصة، وتذكروا كذلك أن الأيام ستمرّ، وأننا حتما سنفارق من نحب أو هم سيفارقوننا، فلنترك ذكرى جميلة في قلوب أحبتنا حتى يجمعنا اللقاء من جديد في جنات الخلد إن شاء الله .