د. محمد الهاشمي الحامدي أول جزائري سلم عليه الوزير الأول التونسي الأسبق بعد هروبه خلسة عبر الحدود رد التحية بأحسن منها، وتعرف إلى مزالي من الوهلة الأولى. لم يكن ذلك مستغربا، لأنه كان بوسع الناس في المناطق الحدودية المشتركة مشاهدة البث الأرضي للتلفزيون التونسي والتلفزيون الجزائري على حد سواء، ولم تكن القنوات الفضائيات قد ظهرت آنذاك، وكان مزالي طبعا النجم الثاني في التلفزيون التونسي بعد الزعيم بورقيبة. عرف مزالي من الرجل أنه على مقربة من ثكنة لحراس الحدود، فطلب منه مرافقته إليها ولم تكن تبعد عنهم إلا قرابة نصف كيلومتر. وهناك، تعرف عليه الضابط المناوب في بوابة الثكنة فأدى له التحية، ثم استدعى له ضابطا أعلى رتبة، فأدى له التحية أيضا، ورحب به، ووفر له أسباب الراحة على عجل. كان الضباط الجزائريون غاية في اللطف مع وزيرنا الأول الأسبق. أدخلوه إلى واحدة من أفضل غرف النوم الموجودة في الثكنة ليستريح فيها، وجاء أحدهم ببعض الدواء ليطهر له جروحه التي أصيب بها في رحلة الهروب، في جبينه ويديه ورجليه. ثم أقبل ضابط آخر بطبق مملوء بالعنب الأسود، فارتوى به وابتلت عروقه. ولاشك أن مزالي مازال يتذكر طعم العنب الجزائري في تلك الليلة الحاسمة التي غامر فيها بحياته. بعد ذلك، جاء ضابط جديد أعلى رتبة فيما يبدو، فسلم على مزالي بصفته الوزير الأول في تونس. رد مزالي: أنعم الله مساءك، ولكني لم أعد وزيرا أول. فأجاب الضابط الجزائري: بالنسبة لي مازلت وزيرا أول وسأعتبرك كذلك إلى آخر حياتي. طلب الضابط من مزالي أن يصحبه إلى ثكنة القالة التي تبعد أربع كيلموترات فقط من الثكنة الحدودية، وهناك أيضا قام الضباط بواجب الضيافة والترحاب، في جو حميمي لا خوف فيه ولا إحساس بالغربة. بعد ذلك، اقترح الضابط الجزائري على ضيفه التونسي أن يصحبه إلى قسنطينة لقضاء بقية الليله هناك، ثم السفر صباح الغد إلى العاصمة. أجاب مزالي، وأستعير هنا من كتابه: "اسمع يا سي محمد كان اسمه سي محمد، لم أنس اسمه، قد يكون من المخابرات العسكرية أطلب منك طلبين إذا أمكن: الأول أن تعطيني "دجين" أو سراويل ولو كانت مستعملة، لأن سراويلي، كما ترى، ممزقة على مستوى الركبة. وثانيا، تمكنني من تذكرة بالطائرة توصلني إلى أي مطار أوروبي، فإني كما ترى لا أملك دينارا واحدا. وفي انتظار ذلك أقضي الليل على مقعد في مطار عنابة، وأركب في الغد صباحا أول طائرة نحو أوروبا، وبهذه الصورة لا أحدث لكم أي إزعاج، فلا أحد رآني ولا من عرفني"! لكن السلطات الجزائرية كان لها رأي آخر. وأواصل عرض القصة غدا إن شاء الله.