قال عنه الأديب عز الدين ميهوبي: "هو فنان لا يريد إسعاد نفسه بمحاورة الصخرة، إنما يتطلع إلى إسعاد الآخرين بحديث الصخرة"، إنّه النحات السوري المخضرم سعد شوقي الذي ابتكر تجربة فنية فريدة في العالم، عندما أنجز معرضا كاملا من المنحوتات ووجهها خصيصا إلى ضريري البصر، وعبر أيقونة "أنت عيني" أصرّ سعد أن يبتعث في مخيال الضرير لغة يستمع بها إلى جمالية القسوة وعنفوان اللحظة، حتى وإن حجبت الشمس عليهم نورها، فروح الصخر تضيء لهم .. فالضرير كان وسيظلّ سيدا في العتمة. التقيناه على هامش أحد معارضه، فكان هذا الحوار. بداية، هل لكم أن تعرّفوا قراء "السلام" بشخصكم الكريم؟ سعد شوقي ولد في بالجنوب السوري بدرعا بالحوراء في الفاتح مارس 1949، ولدت بهذه البلدة الصغيرة والهادئة، نشأت شديد التعلق بوالدي، خاصّة أبي الذي كان مناضلا ضد الفرنسيين، وقام بأعمال جليلة في قتالهم، لست أبالغ إن قلت أني كنت موهوبا منذ نعومة أظافري، وقد أثرت موهبتي على دراستي، فكان أن رسبت في الثانوية العامة. كانت الحجارة لغة لهوي، ولدى بلوغي السادسة عشر من عمري، استطعت أن أنجز معرضا للنحت في ثلاثة عشر قطعة وكان ذلك في سنة 1965. كنت مولعا بالرسم وخاصة رسم الأيدي، فقد رسمت أيدي أصدقائي وأيدي أساتذتي، ممّا كان يبعدني عن الاهتمام بالدرس، انتسبت لاحقا إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق قسم التصميم الداخلي (الديكور)، تخرجت منها عام 1977 وأثناء دراستي اتجهت إلى النحت وخاصة النحت على البازلت وعملت في أماكن كثيرة في درعا في مجال الديكور مثل: أستوديو 26، وأستوديو فينوس وغيرها بين عامي 73 و74. ظلّ بيتي عبارة عن متحف للنحت بيد أني ضيّعت معظم أعمالي التي أنتجتها أثناء دراستي، بعدها انطلقت إلى الجزائر فانبعثت طاقاتي الإبداعية هناك، ومنها قدّمت عدة معارض هناك وفي الكثير من الأقطار العربية ولي مقتنيات في معظمها. أنا عضو في ست تنظيمات ثقافية وفنية عربية، أنشأت تجمع الفنانين التشكيليين في درعا، وأعمل على إقامة مشروع في درعا لتنمية المواهب، أنا متزوج وليس لديّ أولاد لكني أعتبر أعمالي الفنية هي أولادي. كيف تشكلت لديك فكرة الإشتغال على معرض للنحت موجه إلى المكفوفين؟ كان ذلك قبل خمس وثلاتين سنة عندما تركبت الفكرة في بالي بمدينة درعا، في تلك القرية الصخرية القلعة التاريخية والبسيطة التي تهجر عبر التاريخ بشامية النسب وتتماهى مع بساتين وأغاني وينابيع الجنوب السوري... في هذه الأجواء تخيلت، فهل يداعب الصخر وينطقها ضحكا بتشكيلاته النحتية؟ وضعت وشاحا على عيني وأخذت يشكل بالطين أشكالا وخطوطا وحجوما... فنمت سحابة قاتمة اكتنفت عيني فلم أطق التجربة، نزعت الوشاح وحمدت الله على نعمة البصر، ومن يومها عقدت العزم على مشاركة المكفوفين عوالمهم ومشاطرتهم آلامهم. هل هو بمخيال الكفيف أم بمخيالك الشخصي؟ ببساطة، لم أقم أعمالي هذه بعين الكفيف، بل سخرتها من أجله، واكتشفت من خلال هذه التجربة أشياء جديدة مع المكفوف لم أكن أعر لها اهتمام فيما مضى، لكن حواري مع أطفال مكفوفين، جعلني أنتبه لها، إذ طرحت عليّ أسئلة لم تكن ببالي ولم يطرحها عليّ حتى الفرد المبصر، فقد استطاعت هذه الفئة أن تتعمق أكثر من تعمقي في أعمالي، فكما إن الكتلة لغتي فهي لغتهم أيضا، كلانا يشعر بالكتلة أكثر من السطح، هناك شيء مشترك بيننا هو الشعور الواحد بالكتلة والفراغ داخل المساحة، نحن نتشاطر ضمن هذه اللعبة. الملاحظ هو جنوحك في منحوتات المكفوفين إلى التنويع في أدواتك وعدم اكتفائك برمزية من طراز ما، إلى ماذا يعود ذلك؟ ذلك راجع إلى كون موضوعاتي فيها أفق للتوقع عند الضرير كما عند المبصر، فالخيبات التي تلاحق الإنسان واحدة، لذا أستعمل مختلف للمواد من حجر وخشب وأحيانا العظام، وهي تشكل بمنظاري لغة للإستشعار، فيدرك الكفيف جوهر الأشياء في غياب دقائق الموضوع. اكتشفنا في أعمالك وقوفك مطوّلا عند الأطلال، هل من تفسير؟ أنا لا أبكي الآن بل أنا ثائر، فمن خلال طلالياتي، أطرح موضوع الثورة، ليس الثورة السياسية وحسب بل الثورة الاجتماعية، أرى أنّ هذه الثورة الحقيقية أن تكون ضمن المجتمع، أما الثورة السياسية فأنا موجود فيها من خلال مجموعة كبيرة من أعمالي، وهي عبارة عن إسقاطات من التاريخ أو بالأحرى على التاريخ ضمن أعمال نحتية، فعندما تأتي إلى نحت زنوبيا التي أسست أول دولة عربية ما قبل التاريخ سنة 264 ق.م، بعد أن حوصرت من قبل الرومان في صحراء تدمر جنوب سوريا اقتيدت وأخذت إلى روما مقيدة بأغلال من ذهب، لكنها انتحرت بجرعة سم من أجل أن تبقى حرة وتحافظ على حريتها، طبعا العمل الفني هو عبارة عن رسالة موجهة من زنوبيا إلى جميلات العرب من أجل المقاومة حتى لا تبقى عبدات للإستعمار أيا كان مصدره أمريكيا أم صهيونيا. ماقصدك بجميلات العرب؟ عندما أقول جميلات العرب فأنا أذكر: جميلة بوحيرد وجميلة بوعزة اللاتي قاومن الاستعمار الفرنسي فكن رمزا للتحرر والثورات في العالم، بالإضافة إلى جميلات المشرق العربي من أمثال: وفاء وآلاء الفلسطينيتان وميسون العراقية وسناء المحيدلي اللبنانية اللواتي قاومنّ الاحتلال الأمريكي بالعراق، واللواتي فجرن أنفسهن بفلسطين من أجل البقاء حرات، طبعا الرسالة وصلت وكانت مفهومة جدا من زنوبيا إلى جميلات العرب. أرى أن المقاومة قد تكون من خلال النمو الديمغرافي، الله قدّر للشعب الفلسطيني أن تكون نسبة الولادة عنده أكثر بكثير مما عليه الشعوب الأخرى في العالم، فبقدر ما يسقط من شهداء الحجارة بقدر ما تهب نساء فلسطين من أطفال الحجارة... فبهذا المجتمع المتضامن والحب المتواجد بينهم نستطيع مقاومة إسرائيل، من خلال هذا النمو نستطيع أن نحقق تواجدنا بقوة... من هذا المدلول طرحت المعنى في نحت "حبيبتي فلسطين". في موضوع السياسة تجلت لوحة "حبيبتي فلسطين" بأصدق تعبير في المزج بين الكتلة والفراغ؟ ركزت على الحرية، لكن بالضبط في حبيبتي فلسطين الشيء الذي طرحته هو التكافل الاجتماعي انطلاقا من الدعامة الصحيحة في المجتمع، بمعنى أنّ عملية الجمع بين الشاب والفتاة من خلال ارتداء الثوب الفلسطيني الواحد، يؤدي إلى تشكيل أسرة صحيحة ونواة صحيحة فمعيار صحة المجتمع هو معيار صحة الأسرة. هل يمكن للنحات أن يؤمن بالأشياء الموجودة لا غير، أم يرى من الأشياء أعماقها؟ الشيء الطبيعي أننا نأخذ الجوهر مباشرة، هذا طبيعي فالفنان يرى ما لا يراه الآخرون وسابق لعصره، أي أنه العين الثاقبة التي من خلالها يسيّر المجتمع، الفنان أحيانا كثيرة يطرح قضاياه عبر مجموعة من التساؤلات التي يقوم بإتمامها من خلال معالجاته. مثلا من خلال منحوتة "الدرة"، أردت أن أجعل من قسوة النحت صورة أصدق تعبيرا من الكلمة، هذه الصورة المرّة التي انتقلت إلى العالم يوما عبر الفضائيات، حيث كان الدرة يقتل أمام أعين المجتمع الدولي والأب يصرخ "مات ولدي مات"، والعالم ينظر على هذه الصورة دون أي مساعدة، طبعا عندما أخذت الصورة وحاولت تجسيدها لم أحافظ على هذه الصورة الوحيدة بل ضمن آلاف الصور اليومية التي تأتينا عن الشعب الفلسطيني، فنحن نرى ونتناول الغداء والعشاء أمام صور القتل والتنكيل بالشعب الفلسطيني حتى أصبح الجو معتادا وروتينيا، لذا أرى علينا في هذا المستوى نهضة ثقافية... فعلى مثقفينا أن يحاولوا التعمق في هذه القضايا ويتمعنوا فيها من أجل تحريك الوعي العام داخل المجتمع العربي. نكشف في أعمالك طرح محتشم للمرأة العربية.. في نحت "الوشوشة" تلاحظ من خلاله حوار استشارة بين فتاة وامرأة يرتديان الحايك، وبرفقة المرأة صبي، الحديث الطويل بينهما يؤدي إلى تذمر الطفل فأَسقط الحايك عنها حتى ينبهها إلى وجوده بإلغاء وجودها -فيكفينا هذا-..، إنّ محاولة إرجاع الحايك على جسد المرأة هو اجتماعي بحت، والحياء طبيعي بين المجتمعات العربية أيا كان تسميتها. وقد طرحنا موضوع الحياء في كثير من الأعمال أردنا منها أن نصور حياء المرأة الجزائرية ذات الخجل والحشمة في "ذات الخمار". وهناك من نشعر فيه الأمومة المفقودة والحنان من خلال خطوط فيها ليونة تجعلك تنطلق من مكان على آخر دون تكلّف وبراحة. منحوتة "حوار الحضارات" تخفي فلسفة جمالية وجرأة في طرح موضوع لم تحدد له بعد مفاهيم مضبوطة؟ طرحي كان على أساس أنني مثقف عربي أطرح قضاياي من أجل المجتمع البسيط على الفرد الذي يكد من أجل لقمة العيش، فأنا أنجز أعمالي لأجل المجتمع بكل تركيباته من شباب وأطفال ونساء، بكل بساطة لا أحب فلسفة الأمور فأنا أكره التجريد لأنه ليس المربع الذي يحتوينا، هذا الفضاء التجريدي يصلح أن يكون للذين بحاجة إلى ترف فني. أنا الآن أمشي في مجتمع مملوء بالمشاكل الاجتماعية والأدبية والتاريخية، لا أريد أن أكون بعيدا عن المجتمع، هناك حوار في النحت ما بين كتلتين الكتلة المسيطرة والمسيطر عليها، ترى شخصيتين في شبه حوار بل أوامر تملى علينا نحن، هناك كتلة أكبر وأخرى صغرى تخلّف فيها صمت وجزع وألم، الآخر صاحب الثغر المفتوح يعطي الأوامر وهو متشدق يحاول أن يسيطر على الفرد الآخر. بعد لحظات من دخول الجيش الأمريكي إلى بغداد نهبت أكثر من عشرين ألف تحفة فنية، من أجل ماذا كل هذا؟ من أجل أن تجعل لنفسها حضارة على حساب طمس حضارة دامت أكثر من سبعة آلاف سنة، ولتقول لنا إنّ حضارتكم هذه خلال ساعات أضحت لا شيء أمام أمريكا. قساوة الصخر تحولت إلى لغة للاستشعار لدى المكفوفين؟ الصخر لين... أنا في أعمالي النحتية ليس لي فيها دور سوى إزالة الغبار عنها، لا أرى في ذلك صعوبة لأن العمل موجود داخل الصخر، وبقليل من الهواء والحركة نستطيع أن ننفض عنها الغبار ليظهر ما بين داخل الصخرة من قضايا اجتماعية. أنا أتعامل مع الصخر بحميمية، فحديثي مع الصخر له امتداد 40 سنة وأنا أداعبه. فلو رجعت إلى القرن الماضي أين كانت لعبتي الحجر فسألعب معه ثانية وأداعبه بشوق الطفولة. عشق قديم مع الصخر؟ لقد تنبه لهذه القضية أخي عزالدين ميهوبي من خلال معرض أقمته سنة 2003 على هامش مؤتمر إتحاد الكتاب العرب، فأنا عندما أحمل الصخر بكثير من العناء الممتع، أسبح بخيالي في غياهب الزمن والتاريخ وفي معاني الجمال حتى أنسى ما أعانيه من أثقال، وخلال هذا تتشكل رسالاتي.