تحظى قاطنات دار المسنات بدالي براهيم بالجزائر العاصمة بكل الاهتمام والرعاية من طرف الهيئة الوصية، إلاّ أنّ ذلك لا يعوض حرمانهن من دفء العائلة بسبب تخلي ذويهن عنهن ليجدن أنفسهن في وضعية مأساوية سببها جحود الأبناء. مرارة وحسرة الخطوات بطيئة ومرتعشة والصمت مطبق في هذا المبنى الذي شاء سوء الحظ وجحود الأبناء وقسوة الحياة أن يكون نزلاؤه تحت رعاية الآخرين من الأغراب ،ويجدوا في كنفهم شيء مما فقدوه عند أبناء من دمهم ولحمهم، قالت عنهم إحدى المسنات “أولادنا جاحدون وناكرون للجميل لأنهم رمونا هنا...”. ويقول أحد العمال بدار الأشخاص المسنين والمعوقين بدالي إبراهيم أنه كلما تطأ قدماه هذا المكان الذي يعد عينة فقط عن مثل هذه المراكز حتى يعتريه شعور غريب وتختلج صدره مرارة وحسرة على نزيلات الدار البالغ عددهن 90 امرأة. وأوضح العامل المذكور أنّ سبب هذا الشعور ليس لأنهن لا يجدن رعاية من القائمين على المركز، بل على العكس فهن تتلقين كل الرعاية والاحترام والتبجيل وتقدم لهن خدمات طبية ونفسية لم تجدنها ربما حتى عند ذويهن ولكن لرؤية تلك العجائز اللائي أفنين زهرة حياتهن في تربية أبنائهن يكون جزاؤهن الجحود، كما عبّر عن حسرته على تلك النزيلات اللواتي أصبن بإعاقات وأسقام ولم يتحمل أقاربهن عناء إعاقتهن فقاموا بالتخلص منهن بعيدا عن حياتهم الخاصة في هذا المركز. ألم مضاعف وتقول الخالة فاطمة في هذا الصدد، وانسابت دمعتان على خديها المزدحمين بتجاعيد الزمن: “سيكون الدور لابني المتزوج مع أوروبية الذي تركني نزيلة في هذا المكان، ذات يوم سيرميه ابنه مثلما رماني”. وانطلقت إلى غرفتها تطوي أحزانها وتحلم بالأمل من جديد ورغم الأسقام التي لا تبرح قدها الهزيل وفق ما أسرت به إحدى المساعدات إلا أنها تملك قلبا مرهفا وأحاسيس ومشاعر فياضة وتتأثر بأقل المواقف، وهو ما استشف لدى ولوج غرفتها. وقالت “نعيمة بلحي” مديرة المركز، أنّ نزيلات الدار “يحتجن إلى رعاية لا يمكن توفيرها إلا بالصبر والعناية الخاصة، إذ أن بعضهن فقدن الأمل”، وأضافت أنهن وجدن أنفسهن إما عاجزات عن الاستمرار في الحياة في بيوتهن الأولى أو أن الأولاد والبنات وجدوا في هذه الدار سبيلا لكي يرتاح الجميع، وربما لعبت الظروف الاقتصادية في مقدرات البعض ولم يجدن معينا لهن غير دار الرعاية”. وخلال الجولة تمت زيارة غرف القاطنات وصالات الأنشطة والترفيه وكل ركن من أركان المركز على الرغم من تواضعه كمبنى بيد أنه يوحي بأن النزيلات يتلقين الرعاية والعناية بل أن القائمين على المركز أكدوا أنهم يعتبرون كل نزيلة وكل معاقة في منزلة “والدتهن”. جهود المستخدمين لتعويض عقوق الأبناء ويسعى مستخدمو الدار جاهدين لتلبية طلبات المسنات، متفانين في إسعادهن وإدخال الفرحة إلى قلوبهن الرطبة ورسم الابتسامة على شفاههن الحزينة وكما أكدت إحدى المساعدات الاجتماعية “نحن أولى بمريضاتنا من أهلهن لأنهن أصبحن جزءا منا ونحن جزء منهن”. ولكن رغم كل هذه المساعي النبيلة لتعويض الجو العائلي إلا أن هذا الأخير يبقى له خصوصيته فكما قالت المديرة “لا أحد يمكنه أن يملأ فراغ غيره”. واعتبرت نعيمة بلحي أن الوجوه التي ارتسمت عليها خطوط الزمن والأيادي الدافئة المرتعشة التي تستبقك بالسلام توحي بأنها تشتاق للتصافح أو أنها لم تصافح أحدا منذ مدة فتشعرك بأن لسان حالها يقول “أبنائنا الذين تركونا هاهنا سيحلون ضيوفا يوما ما ليس ببعيد في المكان ذاته”. وترجع المديرة أسباب لجوء المسنات إلى الدار إما إلى “عقوق الأبناء سواء كانوا أولادا أو بناتا” كأن يكونوا قد تزوجوا ولم يتسع بيت الزوجية الجديد للآباء أو لأن الأبناء قد أخذتهم يد المنون وتركت آباءهم وحيدين أو أن الأبناء أنفسهم لم يعودوا يطيقون تصرفات الآباء التي لا يفهمها الآخرون لأن “المسن حين يكبر تصبح احتياجاته في بعض الأحيان شبيهة باحتياجات الطفل الصغير”. وأفادت نعيمة بلحي أن الدار تضم عدة شرائح من المسنات بعضهن “عاديات” حسب ما اصطلحت عليهن وأخريات متعددات الإعاقات. وتستطرد أن “بعض هؤلاء المسنات أتى بهم أولادهم ومن ثم تبرؤوا منهن لا لشيء إلا لأنهم اعتبروهن جالبات سخرية من قبل المجتمع أو اعتبروهن عائقا في حياتهم أو للهرب من مشاكل تصادفهم بسبب التقدم في السن”. وتردف المديرة أن “البعض الآخر اعتبرهن عائقا إذا ما كان مستواهم المعيشي قد تطور وأصبحت الحياة في عيون الأولاد لها لون مختلف في حين مازال الآباء والأمهات يسبحون بذات الألوان القديمة و يعتبرونها هي الأصل فيحصل الاختلاف بين الجيلين”. وتشير المتحدثة إلى أن “بعض المسنات أتين بإرادتهن إلى الدار للعيش بعيدا عن الطرقات والبرد ونظرات الناس لتعشن بكرامة حتى لو كانت بعيدات عن رعاية الأقارب”. وعن طريقة التعامل مع المسنات توضح مديرة الدار أن “الخطوة الأولى هي توفير الرعاية والعطف وكذا تخفيف الهموم بمساعدة الأخصائية النفسانية والمرشدات كما تتولى دار المسنين علاجهن على اعتبار أن بعض النزيلات مصابات بأمراض عديدة بحكم عامل العمر لذا تسهر الطبيبة على فحصهن بصفة دورية وإذا ما كانت هناك حاجة إلى طبيب أخصائي يتم تحويلهن إليه”. الحديث مع جل المسنات بالدار كان مشروطا بعدم ذكر أسمائهن الكاملة وفي هذا السياق أجهشت إحداهن بالبكاء قائلة “لا أريد لابني أن يقرأ اسمي فربما يؤثر ذلك على سمعته” مؤكدة بذلك عاطفة الأمومة التي لا تزال تحنو على ولد لا يسأل عن أمه. وحين اطمأنت النسوة إلى أن أسماءهن لن تذكر احتراما لرغبتهن، مسحت إحداهن دموعها وقالت: “أنا مرتاحة هنا وجميع العاملين أبنائي”، مضيفة “جاء بي ابني إلى هذا المكان قبل سنوات، ولم أكن أعرف أنه سيرميني هنا إلى الأبد، قال لي وقد حمل حقيبة صغيرة أنه سيأخذني في زيارة وإذا بي هنا في هذه الدار”. “الحقيقة أنني كنت غاضبة حين غادر ابني وتركني، ولكن بعد أيام وحين وجدت الراحة هنا فرحت فزوجة ابني لا تريدني أن أكون في بيتها، وابني ضعيف الشخصية أمامها وأنا امرأة عجوز لي طلباتي الخاصة في نوعية الأكل والشرب والدواء، فمن مثلي لا يمكن أن يكون خاليا من المرض، سيما وأننا مررنا بأعوام عجاف أيام الاستعمار”. قلب نابض رغم قسوة الظروف من جانبها، قالت أخرى رافضة الإفصاح عن اسمها أن لديها ابنتان متزوجتان و لكنهما لا يأتيان لزيارتها إلا قليلا. “لقد أتيتا بي إلى هنا بعد أن ضقت درعا من إساءة معاملتي من طرف زوجيهما”. وهنا تدخلت احدى المرشدات مبرزة أن “أغلب النزيلات ما يزال قلبهن ينبض بحب الأبناء رغم أن الأبناء لا يزورون آباءهم أو أمهاتهم وكأنهم قطعوا الصلة بهم نهائيا فتحولوا إلى أبناء عاقين”. تم الاستماع إلى قصص الكثيرات وكلما تم التوقف بجناح أو مضجع أو صودفت حالات بدا ما في جعبتها أكثر مأساوية من الأخرى إلا أن القاسم المشترك بينها حسب المرشدة هو “الحزن والأسى و قسوة الظروف أو الإحساس بنكران الجميل”. حلت ساعة مغادرة الدار بعد قضاء سويعات مع ساكناته أثيرت خلالها مواجع بعضهن ونفست أخريات بالفضفضة عما يقض مضجعهن و هن يوصن في نهاية الزيارة بإيصال رسالة مفادها “بر الوالدين” بكل ما تحمله هاتين الكلمتين من معاني.