«مملكة الفلاڤة» هي التسمية الذي أطلقها الجنرال شال؛ القائد العام للقوات المسلحة الاستعمارية بالجزائر على منطقة الميلية، حيث جاء في كتاب «الوقت الضائع» في الفصل الذي يتحدث فيه الكولونيل ترانكي عن مخطط شال، قوله متحدثاً لترانكي: «سأعطيك قيادة المنطقة الأكثر صعوبة في الجزائر، إنها الميلية . ولم نكتف في هذه الأيام بهذه المعارك بل كبدنا الاستعمار في 22 أوت 1955م ضربة قاسمة أربكته وأذلت كبرياءه، تمثلت في قتل الحاكم العسكري لأولاد عيدون «رينو» برتبة عقيد (كولونيل) في منطقة أودادن على بعد كيلومترات من وسط المدينة، فقد رصدت مخابرات الثورة تحركاته على الطريق الرابط بين المدينة و قسنطينة، إذ كان يشرف بنفسه على إدخال المعمرين العاملين والمقيمين خارج المدينة خشية عليهم، وأبلغت القائد عمار علواش، بهذه التحركات وتوقيتها، فعين أحد عشر (11) مسبلا من بينهم فانيط الطاهربن مراجي، والهاشمي بو درمين، وقماش رابح ويقال عبد الحميد بودرمين، بوبشيرة محمد بن ابراهيم، بوسالم بوزيد، عمار فانيط، فانيط سعد، فانيط محمد، بوقعود العربي ممن يتفننون القنص وأخذوا أماكنهم في المكان المذكور (أودادن). وأثناء عودة الحاكم «رينو» إلى المدينة، وقد كان متقدما على قواته بمسافة معتبرة، أطلقوا عليه النار فأردوه قتيلا، وأخذوا رشاشه وعفوا عن سائقه ابن المنطقة لأنهم كانوا يعرفونه ويشهدون بطيبته. هذه الضربة القاسمة أصبحت حديث الصحافة العالمية بأسرها فلم يكن أحد يتصور أننا قادرون على الوصول إلى الحاكم رمز الهيمنة الاستعمارية ودليل هيبتها وحامي دولتها. بعد انتهاء هذه الهجمات قال زيغود يوسف الشهير بيوسف الفرقاني، أن الثورة نجحت في سكيكدة نجاحا سياسيا، ونجحت في أولاد عيدون نجاحا سياسيا وعسكريا. يقصد بهذا الكلام أنه قتل في الميلية من الجيش الفرنسي الكثير وغنمت الثورة عدة أسلحة في معركة أسردون بقيادة علي بن جكون في معركة 20 أوت. ومعركة بين الميلية وعين قشرة بقيادة بوزردوم السعيد ولم يُقتل الشعب، وفي سكيكدة حدث العكس حيث قُتل الشعب بكثرة. وقد أهدى زيغود مصحفا شريفا لمسعود بوعلي، بهذا النجاح ولبلائه الحسن في هذه الهجومات التي فاق نجاحها كل التوقعات. وقد اقتصرت الهجمات في منطقة الشمال القسنطيني على سكيكدة وأولاد عيدون، ولم نسمع عن منطقة أخرى غيرهما حدثت فيها هجمات كبيرة إلا مناوشات بسيطة في الخروب ووادي زناتي وقسنطينة وغيرها من المناطق، أما في عين عبيد فقد ارتكب المعمرون مجزرة وحشية انتقاما لما أصابهم في حق سكان تلك المنطقة العزل، ذهب ضحيتها أزيد من 500 مواطن أبيدوا كما تباد الحشرات. ويشير كذلك إلى اندلاع حوالي 30 معركة في سنة 1955، منها معارك كبيرة مابين زرزور والميلية في المكان المسمى أخرطن ومابين العنصر و الميلية في المكان المسمى تابوقار أغلبيتها من تخطيط وتدبير خيري محمد المدعو الكابران. بعد هذه العمليات النوعية الكبرى، وبعد ما حققته من نجاحات سياسية وعسكرية كان لها الصدى الواسع وطنيا ودوليا، ترسخت قدم الثورة في المنطقة وقوت شوكتها وازدادت صفوفها وحدة ونظاما، وتعززت الثقة في النفس، وأصبح المجاهدون يتحكمون في الأوضاع إلى حد كبير وبقرار من المجاهدين: صالح غربي، ومحمد زويكري المدعو بلحملاوي، وبودشيشة حسين، ومحمود لبصير، ورابح بودندونة، أمروا جميع السكان مهما اختلفت مواقعهم وتمايزت انتماءاتهم بالخضوع إلى سلطة الثورة ومن أبى حكمت عليه الثورة بعقوبة قاسية. وقد خالف الأمر ڤايد واحد فقط قتل وسط المدينة، أما الآخرون فقد دانوا بولائهم. ويشير المؤلف إلى السعي إلى استمالة سائر أبناء الشعب إلى الثورة المظفرة، ومن ذلك روايته لما وقع له مع بوجمعة قريدو حيث يقول: «اتصلنا في شهر أفريل 1955– بلحملاوي وأنا- مع المحترم سي بوجمعة ڤريد، المنتمي سياسيا إلى فريق المستقلين وكان عضوا في الولاية وكان يحوز مكانة خاصة عند السلطة الاستعمارية، ويكنون له احتراما كبيرا الأمر الذي جعل الثورة تحذره وتتوجس منه. ذهبنا إليه وأعربنا له عن حاجة الثورة له و لمكانته ولمنصبه السياسي فاستجاب طوعا لعرضنا وأبلغنا بأن خلافه السياسي معنا قد زال بزوال أسبابه، وأنه الآن شريك لنا على درب الحرية و الوطنية، وبأنه جاهز لخدمة الثورة من موقعه وفق ما تطلبه منه. وفعلا فقد وفى حتى سجن ثلاث سنوات على خلفية نشاطه الداعم لنا». كما أسسنا الشرطة، وعينا مسؤولي الدواوير والمشاتي، وشكلنا في كل دوار فرقًا من المسبلين يرأسهم واحد منهم يعمل تحت إمرة مسؤول الدوار. والمسبلون أناس من أهل الدوار يقيمون فيه ولا يغادرونه ويزاولون نشاطاتهم الفلاحية والرعوية وشتى أنواع المهن التي يشتهر بها أهل الدواوير بصفة عادية، ولكنهم مسلحون ويقومون بعمليات متى يطلب منهم ذلك، وبعد انتهائها يعودون إلى ما كانوا عليه دون أن يلتفت إليهم أحد. وكمثال على هذا النظام المحكم الذي اتخذته الثورة أسلوبا لإدارتها وتسيير أمورها ورعاية مصالحها الكبرى أذكر دوار أولاد قاسم؛ فقد كان يرأسه أحمد زويكري المدعو بلحملاوي وصالح غربي وبودشيشة حسين، يتكون من ست مشتات في كل مشتة فرقة مسبلين، ففرقة أولاد عربي يرأسها سي محمد بوشعالة، وفرقة أولاد عنان يرأسها الزهواني قرين و خلفه رابح بودشيشة، وفرقة العتقة يرأسها أحمد بن عياش (وبعد استبداله خلفه العربي بغيجة) وفرقة الدردار يرأسها المدعو صالح بوبرطخ ونائبه العباسي بو عزيز. وفرقة بو اللحلاح يرأسها بن رجم، وفرقة عرفة يرأسها محمود لغريب، وكان هذا النظام ساريًا على باقي الدواوير. ولا يفوتني هنا أن أذكر أسماء بعض مسؤولي الدواوير الأخرى، لعظم دورهم و كبر فضلهم، فمثلا دوار مشاط يرأسه زعيتر، دوار بني فرقان يرأسه مولود الشاوي، دوار بني صبيح يرأسه محمد بن الساسي، دوار أولاد عواط يرأسه مسعود شعراوي، دوار بني خطاب يرأسه بوزيوغ محمد وينوبه أخرون، ودوار بني عيشة و يرأسه الطيب بودابة و دوار بني فتح يرأسه المختار لكحل ودوار أولاد دباب يرأسه عمار علواش ونائبه الهاشمي بو درمين ودوار الولجة يمثلها علي بلعابد و حدودها من وادي بادو إلى حجر مفروش نحو مشاط، أين ترجل ديغول في السير على قدميه وهذا سنة 1960 بصفة سرية وهكذا فهم ذيغول حقيقة الفشل الذي هم فيه والتقارير الكاذبة الصادرة عن ضباطه وهنا كرركلمته المشهورة لقد فهمتكم وهذه في الزيارة الذي أسماها جولة القِدر la tournée de la popote. وأصبح الاستعمار الفرنسي في هذه الفترة الحاسمة مستهدفا من كل جانب فما من منطقة يدخلها وفي كل وقت إلا واشتبكت معه الثورة في شكل حرب عصابات. وكل دوار لا يقوم بضرب قوات الاستعمار وهي تعبر أرضه يحاسب ويسأل، وعلى مسؤوليه تقديم تقرير مفصل عن السبب وإلا عوقبوا، وهكذا لم يعد الاستعمار يشعر بالأمان في أي شبر من أرض أولاد عيدون. وختم المجاهد عمر شيدخ العيدوني، حديثه عن هجومات 20 أوت 1955م بالإشارة إلى أن نجاحات عمليات 20 أوت 1955، وما غنمته من أسلحة، جعلت بن طبال يأمر بإنشاء ورشة صغيرة متنقلة لإصلاح السلاح وصيانته، وقد أشرف على أول ورشة أقيمت في المنطقة المجاهد: بونويوة محمود المدعو بن قريقة، يشتغل معه من 10 إلى 15 فردًا، هذه الورشة استمر نشاطها إلى غاية الاستقلال. وأول مقر لهذه الورشة التأمت فيه وبدأت نشاطها منه مكان يسمى «بصّام» وهو جبل يقع بين بني خطاب وأولاد دباب، ثم بدأت تنتقل سرا بعتادها من مكان إلى آخر، كما كونت العديد من المجاهدين أصبحوا بدورهم قادرين على القيام بأعمال الإصلاح والصيانة، وفي أواخر سنة 1958 كشفت قوات الاستعمار هذه الورشة واستولت على عتادها، فما كان من نظام الثورة إلا تكليف قائد القسم الرابع محمد بلحملاوي، بضرورة شراء العتاد وإعادة فتح الورشة مهما كانت الظروف، فقام بلحملاوي باستدعاء أحد العملاء -وكان قبل ذلك قد حاول قتله في عملية من عملياته، فأصابه بأحد عشر رصاصة، ولكنه نجا- وقال له وكنت ثالثهما: «لقد حاولنا قتلك في الماضي ولكنك نجوت، وأنت الآن بخير، وعفا الله عما سلف، والجزائر لنا جميعا، و سوف أكلفك بمهمة على قدر كبير من الأهمية: عليك بإحضار العتاد المستعمل في إصلاح السلاح مهما كلفك ذلك»، وأريد هنا أن أقف وقفة مع ما قاله بلحملاوي لهذا العميل، ففي كلامه تهديد مبطن إن هو رفض المهمة، فكأنه يقول له: «نحن قادرون على قتلك في أي وقت نشاء» وفيه أيضا يد ممدودة بالصلح وصفحة جديدة مفتوحة إن هو قام بما طلب منه. وفعلا قام هذا العميل بالسعي في كل مكان من القطر الجزائري مستغلا ثقة الفرنسيين فيه حتى تمكن من إحضار كل العتاد الذي طلب منه، وأعيد تشغيل الورشة من جديد. ويشير كذلك إلى أنه قبل إنشاء هذه الورشة كان هناك مختص في إصلاح مختلف الأسلحة يشتغل حدادا في تامدور، بوسط المدينة يسمى «مخلوف رقيوع» كنا نأخذ له قطع السلاح الفاسدة سرًا فيقوم بإصلاحها، ولسوء حظنا فقد استشهد بعد مدة قصيرة على إثر مداهمات قامت بها قوات الاستعمار في أعقاب عملية ذراع بولقشر الشهيرة في 19 نوفمبر 1956 والتي سنعود إليها في ثنايا هذا الكتاب. وتوقف المؤلف مع مخطط بيجار من ديسمبر: 1955م إلى غاية مارس 1956م،الذي يعتبر أول مخطط عسكري تقره القوات المحتلة في المنطقة،و قد أطلق عليه اسم «المروحة» Eventail « وهو عبارة عن هجوم شامل جوا وبرا وبحرا على المنطقة بأسرها فطوقها من كل جانب: من بني فرقان إلى أولاد عربي مرورا بتارسات، عقبة سعد الله ولجبالة. أحكم الخناق على كل تلك المناطق، وشن فيها حملة قتل واسعة في صفوف سكانها، وقام باعتقالات عشوائية صاحبها قصف جوي، ومدفعي مكثف، كما استعمل البارجات البحرية لأول مرة، إذ كانت ترمي بحممها من جهة وادي زهور على المنطقة.