من أروع الكتب التي كتبها المفكر المصري جلال أمين كتاب بعنوان "خرافة التقدم والتخلف"، وعندما تقرأ الكتاب تصل إلى نتيجة مقنعة للغاية أن ليس كل ما نعتبره تقدماً هو تقدم فعلاً، بل هو أسوأ أنواع التخلف. لا شك أن الإنسان قطع أشواطاً عظيمة على الصعيد العلمي والتكنولوجي مقارنة بإنسان القرون الماضية، لكن الإنسان ذاته لم يتقدم، ولم يزدد إنسانية، بل تقهقر كثيراً على الصعيد الاجتماعي والإنساني والأخلاقي. ما فائدة أن نصنع أفضل الطائرات والسيارات والموبايلات، بينما لم نستطع تطوير الإنسان أخلاقياً وإنسانياً واجتماعياً؟ وكان الروائي الروسي الشهير تولستوي قد سبق جلال أمين في إدانته للغرب تحديداً عندما قال إن "أولئك الذي يقدمون أنفسهم على أنهم أكثر الشعوب تحضراً وتقدماً هم في واقع الأمر أكثر الشعوب سفكاً للدماء وأقلهم إنسانية وأخلاقاً." تعالوا الآن نحلل واقعنا الذي نعتبره أعلى درجات الحضارة البشرية. هل هو فعلاً كذلك؟ هل نحن متحضرون ومتقدمون؟ انظروا أولاً إلى بيوتنا الحديثة، حيث أصبح حلم الجميع أن يمتلك بيتاً أو فيلا كبيرة وحدائق أكبر. لقد غدا الكثيرون يتوقون إلى امتلاك القصور، ولطالما يعمل الكثير منا سنوات طوالاً في بلاد الغربة كي يبني بيتاً كبيراً ربما لن يعود إلى بلاده كي يعيش فيه. وحتى لو عاد وعاش فيه، ستجد أن البيت أكبر بكثير مما يحتاجه المغترب، خاصة وأن عدد أفراد العائلة تقلص كثيراً. ولطالما رأيناً رجلاً وزوجته فقط يعيشان في فيلا مكونة من عشر غرف والعديد من الحمامات وقاعات الاستقبال. وفي بعض الحالات لا يوجد في العائلة "الحديثة" سوى طفل أو طفلين على أكبر تقدير. ما أكبر فيلاتنا في هذا الزمان، وما أصغر عائلاتنا! لا شك أن عدد الذين يحملون شهادات جامعية في هذا الزمن لا يقارن أبداً بالقرون الماضية، فالعدد بارتفاع مستمر، لكن ما قيمة تلك الشهادات العليا إذا لا يمتلك أصحابها الحس أو التفكير السليم أو الفطرة الإنسانية الطبيعية السليمة. لا شك أنكم واجهتم الكثير من المتعلمين الذين لا يفكرون بشكل إنساني طبيعي وسليم. لا ننكر أن الطب تطور بشكل مذهل في عصرنا، لكن ما أكثر العلل والأمراض التي لم يجد لها الطب حلاً. وكلما تطور الطب ازداد عدد المرضى والمعلولين. وحدث ولا حرج عن تقهقر التواصل الإنساني. صحيح أن الإنسان ربما قد وصل إلى القمر، ويحاول الاتصال بالكواكب الأخرى لعله يصل إلى قاطنيها إن وجدوا، لكن هذا الإنسان الذي يسعى للوصول إلى الكواكب الأخرى لا يعرف مَن جارُه في البناية أو البيت المجاور. ولا يسعى أبداً أن يتواصل معه إنسانياً. لا شك أن رواتبنا في هذا الزمن عالية جداً، والأموال التي يتداولها الإنسان "الحديث" مهولة من حيث كميتها، لكن الأموال لم تحقق لنا الطمأنينة وهدوء البال، فنحن دائماً خائفون وقلقون من الحاضر والمستقبل رغم امتلاكنا للملايين والمليارات. صحيح أن نسبة الذكاء عالية جداً في عصرنا، لكن كلما زاد الذكاء قلت العاطفة، فأصبحنا أقرب إلى الإنسان الآلي منه إلى الإنسان الحقيقي. وصحيح أيضاً أن المعرفة ومصادرها ارتفعت بشكل مذهل، لكن الحكمة نادرة في عصرنا. وشتان بين المعرفة والحكمة. إن هذا العصر المختل أخلاقياً وقيمياً جعل الحب عملة نادرة، بينما زاد من نسبة العلاقات الغرائزية غير الشرعية بين البشر. كم هي نسبة الحب الحقيقي في عصرنا، وكم هي نسبة العلاقات الجنسية العابرة؟ هل ساعدت مواقع التواصل الاجتماعي فعلاً في التقريب بين البشر، أم إنها قربت البعيد وبعدت القريب؟ ليس العبرة أبداً في أن يكون لديك ملايين الأصدقاء الافتراضيين، بل في أن يكون لديك أصدقاء حقيقيون. كم لدينا من الأصدقاء المزعومين على مواقع التواصل، وكم لدينا أصدقاء على أرض الواقع؟ كم يستهلك البشر في عصرنا من المشروبات الكحولية، وكم يستهلكون من الماء للشرب تحديداً؟ لقد بات الكثيرون يشربون الكحول أكثر مما يشربون الماء. والسبب أن طبيعة العصر المختلة قلبت الأمور رأساً على عقب، وجعلت الناس يهربون من الواقع إلى الوهم. صحيح أن عدد سكان المعمورة بات يناهز السبعة مليارات. لكن العبرة ليست في العدد، بل في كمية الإنسانية الموجودة لدى البشر. كم لدينا من البشر، وكم لدينا من الأناسي (جمع إنسان) أو كم لدينا من الإنسانية في هذا العالم الذي بات فيه الإنسان أكثر وحشية من الوحوش نفسها تجاه أخيه الإنسان؟ كم أضحك عندما أرى البعض يرتدي الساعات الثمينة، بينما ليس لديه وقت أصلاً. لقد حولتنا الحياة الحديثة المزعومة إلى روبوتات متحركة لا تفقه سوى الاستهلاك والإنتاج، فأصبحت حياتنا الإنسانية معدومة أو مؤتمتة. هذه الحقائق الصادمة أعلاه المنتشرة على مواقع التواصل تثبت دون أدنى شك أن ليس كل ما نراه من إنجازات في العصر الحديث هو تقدم فعلاً، بل قد يكون أسوأ أشكال التخلف الإنساني.