هن ثلاث فتيات ، جميع ما أنطبع في ذاكرتي من زميلات الدراسة ! الأولى درست معي في مرحلة الابتدائية ، وللأسف تفوقت علي في الدراسة،أحببتها حبا طفوليا ساذجاً ، غير أني ابتعدت عنها وفسحت الطريق لزميلي المحبب وصديقي الاثيرلما لمحت اعجابه بها وتعلقه الشديد بها! وطالما كان يحدثني عنها بحماس طفولي باهر، ومتلعثما مرات كثيرة ، واستمر يحدثني عنها طيلة مراحل المتوسطة والثانوية ، غير أنها لم تكن من نصيبه ، فبينما فشل هو في الحصول على البكالوريا ، نجحت هي وتخرجت ثم تزوجت زميلا يعمل معها في التعليم أَعجب به والدها! وأنا أجزم أن صورة زميلي بقيت بالنسبة لها مجرد خيال حب طفولي جميل !، أما هو فلا يزال يتعذب حتى اليوم ، حتى بعد العديد من قصص الحب والزواج والأولاد !.... الثانية درست معي في مرحلة المتوسطة ، وهي المرحلة التي تسبق المراهقة ، فتكون عواطفنا متغيرة غير ثابتة ، وأمزجتنا قلقة متوثبة،كانت تشعر بعواطفي نحوها.. تبتسم حينما تلتفت فتجدني أطيل النظر فيها،ابتسامة مميزة! ،وكان كل زملائي يؤكدون جادين أو مازحين بأنها الحبيبة الأولى والزوجة المستقبلية! زوجة .. ما أسذج تفكيرنا .. زوجة .. وأكبر تلميذ في القسم لم يتجاوز الرابعة عشر!. كانت منافستي الشرسة في الدراسة ، و إن تفوقت عليها في اللغة الفرنسية والإنجليزية والرسم ، فإن المنافسة الحقيقية كانت في مادة الرياضيات! كانت تتحصل في مرات عديدة على أفضل علامة في القسم ، وكانت تغضب لما يمدحني أستاذ الرياضيات إبراهيم قائلاً :"هذا تمرين لا يقدر على حله إلاّ حسين! .. "،أرى الحنق منعكسا بجلاء على وجهها الجميل!،وبعض المرات أفشل في حل التمارين وتنجح هي ، لكن ما مدحها الأستاذ أبدا ولا إنتقص مني! ربما كان يقدرني ، أو يرى أن نجاحي مستمر بينما نجاحها هي مؤقت! وفي الحقيقة لا يزال السيد إبراهيم من أكثر الأساتذة الذين أكن لهم إحتراما كبيرا رغم البون الشاسع الذي يفصلني عن تلك المرحلة الدراسية الجميلة!. في العطلة الصيفية من المرحلة الثالثة كتبت لها كلاما جميلا ؛ كلام طفولي ممزوج بأحلام المراهقة...في دفتر المذكرات... في المرحلة الثانوية إفترقنا. وانتسبت أنا الى جامعة الجزائر ، وكانت دراستي متعثرة فاشلة،وانتسبت هي إلى جامعة وهران ، وكانت دراستها ناجحة حتى تخرجت من معهد الحقوق!،لكن الحب ما إستمر،توقف .. وبكيت أنا بدون أن تشعر هي،لمحتها من بعيد تحادث شابا باستمتاع وتضحك في محطة التاكسيات، لا تزال تلك الصورة منطبعة في عقلي الباطني، الشاب مرتكزا على عمود الإنارة يثرثر وهي تستمع إليه بانبساط كبير .. أي سحر أنثوي .. إبتسامتها في تلك اللحظة إحتقرتها...واستصغرتها..لكن صديقي القديم قال بأني مجنون وأبله فهذا ظلم ! كيف امنعها من أن تحدث الاخرين ، وأنا لم أقل شيئا ولم أعبر لها عن عواطفي! أو الرغبة في الزواج ! وهل تعتقد أنها لا تزال تحتفظ بذكريات المتوسطة ودروس الرياضيات!. ذاك الاحتقار استمر يلازمني مدة طويلة ، فقط في السنة الماضية تحول الى احترام ، احترام حقيقي! تأثرت وأنا إستمع إلى زوجتي وهي تتحدث عنها ، فهي إحدى قريباتها،درست واجتهدت وتخرجت لكن ما رغبت في الزواج ،فهي تعيل ثلاث إخوة معاقين بعد أن توفى الأب، واستقل الأخ الاكبر ببيته الخاص! غضبت زوجتي لما أبديت إعجابي بها ، وزاد غضبها لما أعلمتها بأنها درست معي في المتوسطة ،فسألتني بخبث إن كنت أحببتها أو أعجبت بها ؟ فأجبتها متأثرا ً: "إني احترمها احترام المرأة أهم من حبها.. ". الثالثة كانت زميلة الثانية وتجلس بجانبها ،لم أحبها ، ولم أَعجب بها ، وإنما تشاجرت معها ، الفتاة الوحيدة التي تعاركت معها في مساري الدراسي بأكمله! كانت أطول ألتلميذات في القسم بعد عمر ، الذي كان استاذ اللغة الانجليزية ينعته بالمالك الحزين!وسماها هي الزرافة،فالأستاذ لما يغضبه احد التلاميذ أو يتحصل على علامة ضعيفة فإنه يخترع له لقباً مميزاً.... طلب المدير من الاساتذة تزيين حجرة الدرس ، فتحولوا الي لأني أجيد الرسم ،فأعددت العديد من الرسوم بقلم الرصاص او باللباد، ومن بين الرسومات كان رسم لزرافة تتوسط حمارا وحشيا وغزالا،إعتقدت أني اقصدها،وبتحريض من الزملاء تأكدت بأني فعلت ذلك متعمداً،وأني الصقت الرسم قاصدا على الحائط المقابل لمنضدتها .. في الفترة الفاصلة بين خروج استاذ اللغة الفرنسية ودخول استاذ مادة العلوم ، تشاجرنا في البداية بالألفاظ العشوائية،ثم بالأيادي ولم تُرد أن تفهم أن حيوان الزرافة عنصر مهم في الغابة بجانب الغزال وحمار الوحش والفيل،و أمسكتني من شعري فأمسكتها أنا أيضا من شعرها الطويل ، فصرخ التلاميذ المتحلقون حولنا :- أنت رجل ! لا تستعمل أسلوب النسوة ، لا تمسكها من الشعر بل إضربها في الصدر أو في الوجه .. لكني لم أستجب لأني كنت عارفاً بأن المرأة ضعيفة وإن جاريت غضبي وضربتها بقوة قد يُغمى عليها أو تنزف .. بعد ثلاث أيام قبل أن يدق الجرس لمحتها من بعيد يرافقها شاب ضخم ، وكانت تشير إلي،الأكيد أنه أخوها،إقترب مني،صفعني بقوة ثم دفعني على حائط المدرسة .. - ألا تخجل من نفسك؟ ...تتعارك مع الفتيات.. ثم صفعني مرة أخرى،فانهمرت الدموع من عيناي كأني فتاة وسط التلامي،فأنا أكبر إخوتي ولا أخ لي ولا أستطيع أن أخبر والدي ...صفعاته و لا عقاب والدي... - إبن من أنت؟ - إبن مروان... - مروان الذي يسكن بجانب المركز الصحي... - نع.....م........نعم... - أه....آه...سامحني،وأخرج منديلاً من جيب بنطلونه ، ثم مسح دموعي .. - سامحني.....سامحني.... كان التلاميذ ينظرون إلينا مندهشين متعجبين فأنا لست إبن موظف إداري ، ولا إبن دركي أو تاجر وجيه،إنما إبن إنسان عادي!... صرخ في أخته غاضبا :- الأكيد ...انت من ظلمتهِ...أنت من أسأت إليه...أبناء مروان مثل والدهم لا يسيئون إلى الناس ولا يؤذون أحداً... في الثانوية....والجامعة....تنافست وأُعجبت بالكثير من الفتيات ...لكن فقط هؤلاء الثلاث من إحتفظت بهم ذاكرتي.