تطورت القصيدة العربية في الخمسينات من القرن الماضي،وأخذت تتلون بأشكال الحرية التي ينشدها بنو اللإنسان. و لم يعد الشعر ذلك الكلام الموزون والمقفى عن قصد،و لا الشاعرعبدا لذلك العمود الذي تآكل بفعل الزمن . و ظهر للشعر الحديث رواد لا يشبهون المتنبي و لا أبا النواس، تعاملوا بواقعية مع عصرهم الجديد و خلعوا عن أنفسهم ذلك التقليد الصيني المقيت للقصائد العصماء، و نزعوا النموذج القديم من رؤوسهم كما قال العقاد فبعد أن كانت القصائد تستهل ب: قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل أو ب : عاج الشقي على رسم يسائله إستهلها السياب ب: مطر..مطر...مطر عيناك واحتا نخيل ساعة السحر أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر و تغيرت أغراضهم أيضا فكتبوا للحرية و التحرر و اجتازوا حاجز القبيلة و الوطن فكتبوا للجمال و الخير والعدالة. و لم يعد الشاعر مداحا للخليفة و أصحاب الدنانير ،بل أصبح مداحا للإنسان بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني ،و هذا الفيتوري يقول : يا أخي في الشرق...في كل سكن يا أخي في الأرض ...في كل وطن أنا أدعوك ...فهل تعرفني ؟ و يقول عبد الوهاب البياتي أن الثورة على القصيدة الكلاسيكية ليست ثورة على الشكل فقط كما يظن البعض، بل هي ثورة على التعبير. و لما كان الشعر الشعبي عاملا مهما في معادلة الأدب العربي، توجب عليه هو الآخر أن تمسه رياح التغيير وأن يجتاحه هذا الربيع الأدبي. و لكن مع الأسف هناك مجموعة من الأدباء والشعراء مع كل احترام يرفضون كل جديد خصوصا ما تعلق منه بالشعر الشعبي، و حججهم في ذلك أضعف من أن تذكر ، فالميل إلى القديم سجية في نفوسهم ..و ما الحب إلا للحبيب الأول، و استغربت كثيرا لرأي أحد شعرائنا حين قال بأن الشعر الشعبي جنس أدبي يختلف عن الشعر الفصيح ، ناسيا أو متناسيا أن اللغة مجرد ناقل للشعر و ليست جوهره ، فلقد وصلت إلينا أشعار الخيام الفارسية و درر ناظم حكمت و جواهر شيكسبير دون أن نسأل عن لغة القصيدة فالإبداع لا لغة له و لا دين و فريق آخر سامحهم الله لا يرفضون هذا التجديد إلا لأنهم ليسوا طرفا فيه ،حاولوا الكتابة و السبق ، لكنهم فشلوا فصار لديهم مشكل مع أي نجاح ، فمثلهم في ذلك مثل أبي جهل و جحوده. و فريق ثالث معتدل يرى بأن القصيدة الشعبية الكلاسيكية لم تستوف جميع أغراضها و لازالت الفراغات تسكنها فهي الفتاة البكر إلى جانب القصيدة الفصيحة، و هذا القول مردود عليه من عدة أوجه بتعبير أهل الفقه أولا أن بدايات الشعر الشعبي لم تكن في القرن الخامس عشر كما يظنون ، بل العثور على مدونات الشعر كانت في ذلك العصر أي أن أقدم مدونة وصلت إلينا كانت للشاعر سيدي لخضر بن خلوف : يالناس الي ما تقراو جاية غارسين ركايز خيمة بلا عمود فيك راهم يرجو لعبة و راصية يا عريس الجنة يا فارس الخلود ثانيا :ترجع أصول الشعر الشعبي إلى العصر الجاهلي بدليل أن قصائد العرب الأوائل كتبت على لهجات العرب المختلفة، فلغة حمير تختلف عن لغة طي ،حتى من حيث العادات والتقاليد ،فعرب التخوم والمدر ، ليسوا كغرب البوادي والوبر. و ما وصلنا من الشعر العربي إلا اليسير المكتوب بلغة قريش، والسبب في ذلك هو دخول القبائل العربية تحت مظلة الإسلام ،والقرآن الذي أنزل معظمه على لسان قريش. حتى وإن سلمنا بأن القرن الخامس عشر كان مهدا للشعر الشعبي ، فهل يعقل أن تأخذ القصيدة صورة الكمال في مهدها ؟ ولو نظرنا إلى قصيدة سيدي لخصر على سبيل المثال لوجدناها تامة متكاملة مثل عقد انتظمت لآلئه ، بل أحسن بكثير مما يقوله المتأخرون المقلدون : يا محمد هاي سيدي صلى الله عليك لبدا يامحمد يا الهادي وصلاتك هي العمدا قدر النحلة لي تسدي تعمل شهدة فوق شهدة يعني أن، الاستهلال جميل و التخلص أجمل ، و نلاحظ أن الشاعر واع لما يكتبه فيقول : الشعر سلك حرير فيدي ما حلمت بضناه دودة و يقول الشاعر بن حمادي على نفس المنوال : نخدم و نسدي بقماش عبرو فيدي والي يخدم للسلطان بالتاويل فكلمات نخدم ، نسدي ، التاويل تدل على الصنعة والمهارة. أما من جهة الفراغات والأغراض، فنستطيع القول بأن النص الشعبي تناول جميع الأغراض من غزل و مدح،وهجاء و فخر و اعتذار، ورثاء للأشخاص و المدن،بل تعدى إلى أكثر من ذلك و تخطى المنحى الغنائي الذاتي إلى الشعر الموضوعي التمثيلي فكتبت قصائد على شكل ملاحم مثل ٌغزوة خيبر ً للشاعر الميلود الصابري وٌغزوة واد السيسبان ً للشاعر بن عثمان وقصيدة ٌ سيدنا يوسف ًللشاعر المفلق صالح بن درار. و ختاما نقول بأن القصيدة الشعبية الكلاسيكية إكتملت دائرتها واستوفت أغراضها بفعل تداعيات هذا العصر وسرعته و كثرة المنتوجات الحديثة ، دون أن ننسى العوتمة التي تطوقنا من كل جانب. كل هذا وذاك يحتم علينا كشعراء مسؤولين أمام هذه الحركة الجديدة أن نتعامل بوعي كامل وأن لا نقف منها موقف السلبي الذي لا يرى مزية للمحدثين ،ولا موقف الجاحد الذي لا يلتفت إلا لنفسه ولا يرى جميلا إلا إياه ،وكل من حوله يبحر في سماءه ،لأنه و بصراحة تامة ما زال الشعر الشعبي ومنذ قرون يراوح مكانه برغم الإمكانيات التي وفرتها الدولة من ملتقيات وعكاظيات وغلافات مالية كثيرة لم تسفر مع الأسف ت عن شاعر جزائري يقف ندا للأبنودي المصري و لا لعباس جيجان العراقي و لا لعمر الفرة السوري.