على عكس ما تُمليه الأخلاق، وما تُعرف به الأعراف الدولية في مجالات عدة، ومنها التزام الحد الأدنى من أخلاقيات التعامل في مجال اللعبة الديمقراطية، إلا أن ما يسمى بالطبقة السياسية في بلدنا المفدى، لا تزال بعيدة كل البعد عن هذا الالتزام، إذ أنه وبالرغم أن موعد الانتخابات الرئاسية القادمة، لا يزال بعيدا نوعا ما إلا أن بعض الذين يحبّون التملق، واستباق الأمور بدون حسبان ولا بعد نظر، لا ينفكون في الهرولة للترويج ودعوة هذا أو ذاك إلى إعلان النية عن الترشح. والعجيب في كل هذا أن هذه التحركات شهدت كثافتها والرئيس بوتفليقة موجود في حالة مرض وهذه قمة النذالة لأنه أمر لا يليق حتى مع أسوأ رئيس إذ أن الأخلاق والضمير يمليان على الجميع احترام مشاعر الآخر مهما كان الاختلاف معه فما بالك عندما تبدأ هذه التصرفات والرئيس الحالي مريض وهذا ليس دفاعا عن بوتفليقة أو غيره ولكن هذا ما يمليه الضمير من ضرورة التحلي بالتحلي بأدنى ضوابط الأخلاق، وهي ملاحظة تسري على الجميع. ومن بين هذه التحركات ما حصل مع الرئيس السابق اليمين زروال، هذا الرجل الوطني المخلص الذي تنحى عندما اتضح له أنه قدم ما استطاع للجزائر في أحلك الظروف، وكان له أن يستمر لو شاء، فهو ابن النظام، والعسكري الذي تقلد أعلى الرتب، ولكن أخلاق الرجل جعلته يغادر ويذهب إلى بيته الأصلي في باتنة وليس في إقامة الدولة بموريتي في الفيلا رقم 55 على ما أتذكر، كما يفعل البعض من الإطارات العليا في الدولة الذين يذهبون إلى التقاعد، حيث يفضلون البقاء في العاصمة، وينسوّن الدوار الذين جاؤوا منه! وما حدث مع السيد زروال هو أن مجموعة من الوصوليين والداعين إلى الجهوية المقيتة وهم مجموعة نكرة ليس لهم باع في السياسية ولا هم من الشخصيات المعروفة في الساحة إلا أنهم جمعوا أنفسهم وقصدوا الرجل في بيته لكنهم تلقوا ضربة مُوجعة على أفواه أبواقهم وأعتذر لهم الرجل بكل لباقة وقال لهم: الجزائر ليست عاقرا ويجب أن تتركوا الفرصة للشباب فجيلنا عليه أن يركن للراحة. وماتت المبادرة الموسومة بالارتجالية، في ظل انعدام بعد النظر. أما المجموعة الثانية من الأبواق فقد شحنت أبواقها وهمت إلى الترويج للسيد علي بن فليس الصديق غير الوفي للرئيس بوتفليقة، حيث قامت بخطة مغايرة وهي استعمال مواقع التواصل الاجتماعي قصد الترويج له وجس النبض، لكنها تعتقد أن الشعب غبي وأنه سوف ينسى بسرعة حقيقة هذا المحامي الذي خدمته الظروف السياسية، وتقلد مناصب عديدة في ظرف وجيز لم تتح لغيره من السياسيين لو سعى بكل ما يملك، ففضل الرئيس بوتفليقة عليه لن ينساه أحد، فقد اختاره أن يكون مدير حملته الانتخابية في 1999 ثم مدير الديوان برئاسة الجمهورية، فرئيسا للحكومة مع ترؤسه للأمانة العامة لحزب جبهة التحرير الوطني. كل هذه المناصب تقلدها بفضل رئيسه لكنه لم يكن كريما مع ولي نعمته وبمجرد أن زار فرنسا في زيارة رسمية وأستقبل بالسجاد الأحمر لما له من دلالة في البرتوكولات الأوربية وحتى العربية، من هنا انتابه الغرور، وعند عودته قام بالتنسيق مع المدعو خالد نزار المتبجح بما سببه للجزائر في بداية التسعينيات من مأساة، وهو الذي اعترف لقناة أجنبية بإدخال البلد في الدمار من أجل الحفاظ على النظام الجمهوري كما ادعى! ودخل معهم الجنرال محمد العماري والجنرال شريف فوضيل في التخطيط لكن حنكة رجل المخابرات في عهد الزعيم الرئيس هواري بومدين السيد ليزيد زرهوني كانت بالمرصاد وتم وضع كل التدابير والاحتياطات للتصدي لما يحاك ضد الرئيس بوتفليقة، بغية الحيلولة دون فوزه بالعهدة الثانية وكانت الصدمة قوية للسيد بن فليس ومن معه حيث ألزمته الفراش لوقت معين ثم أجبرته على الانزواء بعيدا عن السياسية، وحتى عن الأصدقاء، وتمت إحالة العماري وشريف فوضيل على التقاعد ثم رحليهما إلى الدار الآخرة. حقيقة، أريد أن يشرح لي أحد هؤلاء الانتهازيون، ماذا سيقولنه للناس، لإقناعهم بترشيح المحامي بن فليس، والدعوة لانتخابه، فهل يستطيع الشعب أن يمنح ثقته لمن خان صديقه، فهل سيتوانى عن خيانة أمة بأكملها، وما أعظم خيانة الجميع! من جهة أخرى، تقوم مجموعة من المروّجين لبطاقات خاسرة، بالترويج لبطاقة صاحب المهمات القذرة، المعروف بالديماغوجية ووعوده الكاذبة وبما فعله في أصعب فترة عرفتها الجزائر، وهي مأساة التسعينيات، حيث وفي الوقت الذي كانت الأرواح تسقط بالمئات، وتهدم البنية التحتية في كل البلاد، قام بحل الشركات العمومية وتسريح أكثر من 150 ألف عامل وما انجر عنه من معاناة للآلاف العائلات، وهي المؤسسات التي تعمل الحكومة على إعادة بعثها من جديد، وأستمر في وعوده وخطاباته المفرغة من المضمون والمشبعة بلغة الخشب، حتى سئم الشعب من تلك التصرفات، وأتذكر عندما أقاله الرئيس بوتفليقة حيث صرح للتلفزيون بعد خروجه من الرئاسة وقال أتمنى للرئيس الشفاء وكادت الدموع تهطل ليس على الرئيس طبعا، بل عن الاستقالة التي قدمها مكرها! أقول لهؤلاء الذين يدعون هذا الشخص للترشح، ماذا ستقدمون للشعب من ميزات يوصف بها؟ الحديث عن الأوراق يذهب بنا إلى التطرق إلى السيد بن الخادم هذا المناضل الملتزم بنضاله لكنه ليس أدنى التزام بما وعد به مناضلي الحزب، فكلامه وتعليماته الكتابية للقاعدة النضالية تؤكد على وجوب اختيار المرشحين للبرلمان وللبلديات والمجالس الولائية، من أصحاب الأيادي النظيفة، والنزهاء، والمناضلين الملتزمين، وعنصر الشباب، لكن ما فعله بالقوائم والملفات، كان عكس ذلك، فقط اختار المتهربين من الضرائب، والجهلة، وأصحاب الأموال غير الشرعية، والسوابق العدلية، والحلاقات، والمنظفات مع احترامنا لأصحاب هذه المهن الشريفة، لكن أن يختارهم للتشريع، فهذا غير مقبول عند العاقل والمعتوه. والغريب أنه لم يأبه بتقارير مصالح الأمن المختلفة ولا بمراسلات المناضلين المخلصين، ولا حتى بأصدقائه، والنتيجة كانت معروفة، فكيف سيقنع أنصار هذا الشخص شعبنا العظيم، للدعوة إلى ترشيحه، وتمكينه من رئاسة الجمهورية؟ ولن أدخل في التفاصيل، وما يحدث للجبهة الآن! فقد اختارت راقص الأعراس وسائق "الكلارك" ليكون أمينا عاما عليها فمبارك عليهم هذا الانجاز العظيم، والأفضل لمن يملك أدنى ذرة حياء من اللجنة المركزية، ومن زكى هذا الرجل على الطريقة القديمة، أن يودعوا الجبهة إلى المتحف، للتكفير عن ما اقترفوه في مجال الاختيار، وكانت الفرصة مواتية لاختيار رجل نزيه من طينة عبد الكريم عبادة، لكن اختيار سنة 2013 هو رجوع إلى سنة 1999. وللإشارة فإن التعليمات التي أدت بهم لتزكية هذا الشخصية العظيمة، هي تعليمات الرئيس بوتفليقة لكي يزيح وزراء الجبهة لأنه غير راض عنهم وكذلك للعودة بالجبهة إلى سنة 1999 حيث كان سعيداني رئيسا للجمعيات المساندة وحتى يتسنى للجبهة ترشيح مرشح على المقاس يقبله بوتفليقة حيث أنه الأرجح فإن الظروف الصحية لا تشجع الرئيس على التقدم لعهدة أخرى، وبالتالي يحافظ محيط الرئيس والموالين له على مناصبهم وامتيازاتهم. أما عن الأبواق التي تنادي بترشح السيد مولود حمروش، فقد أصيبوا بخيبة أمل، فالرجل ما زال يلتزم الصمت ويترقب في الوضع، ويتوسم موافقة المؤسسة العسكرية، رغم كبّر سنّه، وللتاريخ فإن حمروش كانت له قرارات جريئة حين كان رئيسا للحكومة حيث حلّ وزارة المجاهدين واستبدلها بمجلس وطني، وقام بإصلاحات هامة في الإدارة. الرجل الوحيد الذي لم يستثمر في مرض الرئيس، وأعلن ترشيح نفسه في السنة الماضية بكل مسؤولية، وقدم برنامجه على شكل لقاءات جوارية، ومساهمات في الجرائد وحتى الفرنكوفيلية منها، هو رئيس الحكومة الأسبق أحمد بن بيتور،وهو الذي لم تكن له أبواق مثل سابقيه، غير أن حظوظه تبقى محدودة لعدة اعتبارات ومنها على سبيل المثال لا الحصر أنه من الجنوب وهو بعيد كل البعد عن جماعة الشرق وجماعة الغرب، وتأييده من طرف بعض العلمانيين ليس لشخصه ولكن بسبب موقفه مع الرئيس بوتفليقة حيث قدم استقالته، ورفض أن يكون ربع رئيس حكومة. يبقى أن ندعو لبلدنا المفدى أن يُقيّض له رئيسا تتوفر فيه: شجاعة وإخلاص الزعيم بومدين، وذكاء وكفاءة الوزير رحماني، وديبلوماسية ورصانة السفير الأسبق دمبري، وحيوية ونشاط غول، ونزاهة ودماثة خلق وبن بيتور، ومرونة سلال. إنه دعاء صادق بدون أية خلفية سياسية، لأن الجزائر كل من يملك صفات الاقتدار والكفاءة مشفوعة بالنزاهة والإخلاص، حتى وأن المعهود في أحداث بلادنا، أن كل الرؤساء لم نعرفهم كمرشحين، حتى آخر دقيقة، أي بمعنى أنه من الممكن جدا، ظهور شخصية من الخفاء، لم تكن في الحسبان فوطننا العزيز، معروف عنه أنه بلد الغرائب بشعبه العظيم، فهل تصنع لنا الانتخابات الرئاسية القادمة رئيسا في مستوى التحديات يتحلى بالصفات التي ذكرناها؟ إن ربيع السنة القادمة كفيل بالإجابة.