يظن طالب العلم الذي كتب إليّ أن على الداعية أن يصل بالأمر إلى منتهاه . ويغيب عنه التفريق بين حال الداعية وحال المعلم، وحال القاضي والحاكم، فهو ينظر إلى زاوية واحدة، هي أن الحق يجب أن يقال، أمّا مَا مقدار الحق الذي يُقال؟ ومتى يُقال؟ وكيف يُقال؟ ومن الذي يقوله؟ فهذا ما لم ينتبه إليه. الحق كبير وكثير، ولا يتسنى لأحد أن يقول الحق كله، ولكن الحكمة تجعل العاقل يأتي بالجوامع من الحق التي يتآلف عليها الناس، ولذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ممن أوتي جوامع الكلم، وهي العبارات الموجزة التي تنتظم معاني كثيرة، ليس هذا فحسب، بل الجوامع هي الحِكَم والدرر ومفاصل القول التي ينتهي معها كثير من الخلاف والجدل، وتأخذ المسائل نصابها وقدرها. الداعية حين يكتب أو يتحدث يراعي نفسيات المحاطين وقدراتهم واستيعابهم ويسعى لتأليف نفوسهم على الحق والخير، والفقيه يجتهد في ضبط العبارات والأحكام والشروط والأحوال والتمييز بينها ووضع المراتب وسرد الأدلة. والمدرس ينحو منحى أكاديمياً لترسيخ معلومات مبدئية في نفوس الطلبة وتعويدهم على البحث والنظر والتفكير. والقاضي والحاكم بيده مقاليد التنفيذ والإلزام، بعد البتّ والقطع فهو في نهاية المطاف يقضي ويقطع بأن الحق لهذا أو ذاك، أو يقسمه، وقد يقع له التردد والشك. ولذا فالداعية يتحرك في ميدان واسع ولا يلزمه أن (يغلق) المسائل ويوصلها إلى منتهاها، لأن ما لا يتحقق اليوم قد يتحقق غداً، وما لم يقل هنا يقال هناك، وما لم يسمعه هذا سمعه ذاك. ومن المشكل أن ألاحق الداعية وأطالبه بأن يقول ويقول ويقول، بناءً على نظرتي الخاصة لما يجب أن يقال.. بينما نظرته هو مختلفة. في صحيح مسلم عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِىِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلِّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ. فَرَمَانِى الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَاثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَىَّ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي قَالَ (إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيءٌ مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ). فأنت تلاحظ هنا مقام الدعوة، والرجل حديث عهد بإسلام، حتى إنه تكلم في صلاته، وقد زجره بعض الصحابة فنهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي هذا درس عظيم في عدم الاستجابة لرغبات صادقة لم تراع الظرف والحال وشأن المدعو فرداً كان أو جماعة أو مجتمعاً. وحين سأل الرجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلاَمِ وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الْكُهَّانَ. قَالَ (فَلاَ تَأْتِهِمْ) رواه مسلم. بينما في مقام آخر قال -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) روه مسلم. وفي حديث آخر قال: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرطهما.. حين تكون المسألة تحتمل حالاً من التكفير وحالاً من التحريم وحالاً من الكراهية، يقدر الداعية المقام، فليس يلزمه أن يوصل الأمر إلى منتهاه، وأن يقول هذا كفر -مثلاً- لما قد يترتب عليه من سوء الفهم أو النفور أو سوء التوظيف للعبارات وما تؤول إليه، ولا يلزم أن ينطق بالتحريم، فإذا حذر أو نهى وزجر وساق العواقب المترتبة على الفعل وحشد شيئاً مما حضره من النصوص، فقد أدى واجب البيان بحسب الحال. إن استحضار الإعلان بالتكفير أو التضليل أو القطع في كثير من المسائل يحدث من النفور لدى بعض المتلقين، ومن سوء الاستخدام لدى آخرين ما يجعل أن المقام الأليق عادة بالداعية هو الحث والتحفيز على الخير والثناء على أهله وسرد مثوبته والنهي والتخويف من الشر والتحذير من عواقبه، وليس يلزم أن يلحم المسائل بالنص على كفر أو فسوق أو تحريم إذا كان المقام يقضي غير ذلك، أو كانت المسألة غير ظاهرة الحكم وفيها اختلاف بيّن، وما يعرضه الداعية ليس سوى اجتهاد أو رأيه. والأحكام لها مقامها ومناسبتها ورجالها المختصون ولها متلقوها وطلبتها الذين يقفون المسألة عند حدها، ولا يخلطون ولا يسيئون التوظيف وقد جعل الله لكل شيء قدراً. * عن موقع الإسلام اليوم -بتصرف-