صادف أني مرضت وأمي ولم نستطع القيام بأعمال المنزل فما كان من أبي إلا أن قام ذات يوم بالتفكير في المساعدة وجلي الصحون و يا له من منظر ويا لها من نتائج!! كانت ربما المرة الأولى التي يتعرف فيها والدي على موقع المجلى من البيت وعلى ليفة الجلي إلا أنه لم يعرف صابون الجلي فجلى الصحون والملاعق بدونه فضلت بقع الزيت العنيدة شاهدة على محاولة مساعدة لم يكتب لها النجاح! والدي طبيب تربى تربية تقليدية ككل رجال العرب حيث معنى أن تكون رجلا أن تكون نسخة من (سي السيد) تأمر لتطاع وتطلب لتلبى ودورك الأهم في الأسرة هو الإعالة المادية التي تكسبك حقوق الطاعة، والاقتراب من كل ما يخص المنزل عيب ونقيصة وحتى التربية يكون وجود الأب لتحمير العين لكل من فكر أن يزيغ عن الصراط المقبول اجتماعيا! والدي يعترف صراحة أن الذي نقله من صورة (سي السيد) المطاع التقليدية إلى حالة الواقف طواعية على المجلى هو الدين والدين فقط! نعم الدين وليس غيره هو الذي يخرجنا من قمقم جهالة العادات والتقاليد وثقل الموروث الاجتماعي وأسر الخرافة التي تحدد أدوارا نمطية وتعريفات وتصورات للأنوثة والذكورة ومعاني أن تكون امرأة أو رجلا و ما ينبني على ذلك من وظائف اجتماعية ترسم الحدود ومناطق العمل بين الرجال والنساء وتجعل الاقتراب أو حتى التعاون سبة في حق الطرفين فتصبح المرأة التي تقوم بعمل يحتاج إلى قليل من القوة مسترجلة ويصبح الرجل الذي يعين أهله محكوم وبشخصية ضعيفة! ولحد القرن والعشرين لم ينفع التعليم في تغيير الحال وأنتج جيل الأبناء ما كان عليه آباؤهم وربوا أولادهم على ذات السياق والتصورات، فالنساء وعمل المنزل كأنما خُلقا من ذات النطفة والرجل والاستمتاع بالخدمات المقدمة أصبح حقا غير مُنازع وحاصل تحصيل يستوجبه لكونه ذكرا! نعم هو الدين الذي عندما ابتعدنا عنه لم تنفعنا الحداثة ولا التعليم ولا التطور وأصبحنا نمارس ذات الممارسات الجاهلية بحق المرأة و كأن الزمن لم يمر وكأن البشرية وقفوا عند نقطة كانت المرأة تسلب وجودها البشري بالوأد و وجودها الاجتماعي والإنساني والاقتصادي بالحرمان من التعليم والميراث بل كانت هي نفسها تعامل كالميراث، وصدق سيد قطب عندما قال إن الجاهلية ليست مرحلة تاريخية كانت وانقضت بل هي مرشحة للوجود في كل عصر إذا وجدت البيئة والأشخاص الذين يمارسون أفكارا وعادات جاهلية. ربما سأفقد كثيرا من قرائي من الرجال الذين سيخفون خاطرة اليوم عن زوجاتهم وكان يصلني أن بعض جمهوري الكريم من الرجال خصوصا يشاركون زوجاتهم بقراءة بعض ما أكتب، ولذا أجد اليوم أكثر الزاما في الصراحة وصاحب الدين والخلق لن يخاف من الحق حتى ولو خالف هواه أو كان مقصرا فيه، والآن نصل إلى السؤال الخطير: هل المرأة في الإسلام ملزمة بأعمال المنزل وهل هذه ضريبة الأنوثة الملازمة لجنسها؟ هل قيام المرأة بأعمال المنزل فريضة أم نافلة تُثاب عليها؟ لقد طولب الرجال والنساء بالعمل الصالح على حد سواء والعمل الصالح مفتوح ما بين أعظم المنازل وأقلها، فإذا كانت إماطة الأذى عن الطريق صدقة دون تحديد جنس من يقوم بالعمل وهذا في الطريق العام فما بالكم في بيت المرء الذي أمر الرسول بتنظيف فنائه بواو الجمع دون تحديد النساء بالخطاب! وفي حديث الرعاية في البيت ألزم الله الرجل بالرعاية في داخل البيت كما ألزم المرأة فمساهمته أساسية وأصلية ومعتبرة ومن هنا كان المصطفى يكون في بيته في خدمة أهله ومن كان يظن نفسه أكثر رجولة منه صلى الله عليه وسلم فليرغب عن سنته، بل أن السيدة فاطمة لما طلبت الخادمة لم يعب عليها أحد ذلك وذهب معها زوجها إلى والدها فلم يعنفها عليه الصلاة والسلام ولم يخبرها أن هذه وظيفتها ويجب أن تتحمل ولكنه أراد لآل بيته أن يكونوا قدوة في التحمل والترفع عن ملذات الدنيا فأخبرها أن التسبيح سيكون لها عونا وقوة على أمور البيت ليتعلم المسلمون منها ويسيرون على ذات الهدي، بل أن الدين جعل ميزان التعامل في البيت دلالة على ما هو أهم من العلاقة بالله فقيل (إذا رأيتم الرجل يقتر على عياله فاعلموا أن عمله مع الله أخبث!) وجعل بالمقابل خير اللقم وخير الرزق ما يضعه الرجل في فم زوجته ولم يحدد هل يطبخ لها أم يطعمها بيده فقط والسيرة تشهد أن عمرا، والكل يعرف من عمر في ميزان الرجولة، وقف على قدر الطعام يطبخ ويحرك حتى أطعم الأرملة وأيتامها، هناك فرق بين امرأة تقدم لبيتها محبة وعن طيب نفس وطيب خاطر وبين امرأة تقوم بذلك ملزمة متأففة، ولو أخذنا برأي العامة، أن الطبخ مثلا نفس، وعمل البيت نفس فأنفاس المحبة الراضية غير أنفاس المجبرة التي لا تجد هروبا ولا حلا سوى أن تصدع بالإكراه. ليس معنى ما تقدم أن نخرج النساء من المطابخ والمنازل ليحل الرجال محلهم ولكنه معناه أن نغير العقليات والنفسيات والتعامل، فالمرأة يرضيها التقدير النفسي فيجعلها مستعدة لحمل جبل، فمن جعلها تتحمل أكثر الآلام وجعا في التصنيف الطبي عند الولادة فقط لتنجب وليدها، يجعلها تتحمل المشاق كلها بابتسامة لو وجد من يقول شكرا، لو وجد من يشعرها بالتقدير، لو وجد من يسند كتفها عند التعب، لو وجد من يحرص على عقلها وراحتها وتطورها وتعليمها كما يحرص أن تكون ست بيت من الدرجة الأولى، لو وجد من يقف بجانبها عند المجلى فقط من باب المناصرة النفسية التي تقول دون كلمات: أنا معك، أنا بجانبك، لن أجلس حتى ترتاحي، أنا أقدر، البيت من دونك لا يسوى قشرة بصلة، وتبقى الكرة في ملعب الرجل والسؤال: ما يمنعك من يسير الإحسان هذا الذي سيكون كبيرا في ميزانك وكفيل بإضفاء جو المحبة والمودة على الأسرة؟ سئل أحد الفلاسفة عن الحضارة فقال هي نفوذ النساء الطيبات، ونزيده من الحكمة سطرا فنقول: وهي أيضا نفوذ الرجال الطيبين الذين يقفون بجانبهن. جلي أبي كان مليئا بالزيت ولكنه كان مليئا بالرحمة وخفض الجناح وحسن الخلق وهذه تتغلب على كل الزيوت وتمسح كل التعب وكل ما علق بالقلب من أدران الحياة. اليوم اليوم وليس غدا تستطيع يا آدم أن تكون سكنا كما كان أبوك لحواء وعونا كما كان رسولك لكل قارورة خلقت من أمته إلى يوم الدين. * عن موقع إسلام اليوم -بتصرف-