بقلم: محمود سلطان العلمانية البنيوية، وكما أصل لها عبد الوهاب المسيري، (كامنة وغير ظاهرة) ويستبطنها الإنسان، دون أن يدري، ولذا تجد جماعات ذات أيديولوجيات دينية، يتسم سلوكها ومفردات حياتها اليومية وثقافتها الجمعية بمضامين علمانية مستبطنة وغير ظاهرة. على سبيل المثال فإن كلمة (المشروع) ذاتها التي انتقاها الإسلاميون في لافتة (المشروع الإسلامي)، ليس لها أية أصول جينية من (الإرث السلفي). مصطلح (المشروع) تعبير مستورد من ثقافة الرأسمالية الغربية (الأسواق) القائمة على أسس اقتصادية علمانية محضة، وبعضها تتبع أصولها، وتبين أنها قادمة من عالم المقاولات التجارية في فرنسا (العلمانية). الكلمة تلك - رغم بساطتها إلا أن تتبعها له رمزيته الدالة على تغلغل العلمانية ك(روح) وبلا وعي في الضمير الإسلامي الحركي وهي وحدها، تعزز الرأي القائل إنه قد استغرقنا الخوض في المعنى الاصطلاحي للعلمانية واختزالها في النص الديني المسيحي (دع ما ليقصر لقيصر وما لله لله).. أو فصل الدين عن السياسة أو أنها مؤامرة كونية على العالم الإسلامي، وما شابه.. ولا نعي بأنها (أسلوب حياة) أكبر بكثير من فكرة (المشروع) الذي ما انفك الإسلاميون ينافحون عنه. يقول المسيري شارحا ذلك ببراعة: (إن بعض المنتجات الحضارية التي قد تبدو بريئة تماماً تؤثر في وجداننا وتُعيد صيانة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم، إذ إن أولئك الذين يشاهد أطفالهم توم وجيري، ويرتدون التِّيشيرت المكتوب عليه ملصق لكوكولا ويشاهدون الأفلام الأمريكية (إباحية كانت أم غير إباحية)، ويسمعون أخبار وفضائح النجوم ويتلقفونها، ويشاهدون كماً هائلاً من الإعلانات التي تغويهم بمزيد من الاستهلاك، ويهرعون بسياراتهم من عملهم لمحلات الطعام الجاهز وأماكن الشراء الشاسعة يجدون أنفسهم يسلكون سلوكاً ذا توجُّه علماني شامل ويستبطنون عن غير وعي مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات هي في جوهرها علمانية شاملة دون أية دعاية صريحة أو واضحة. وربما كان بعضهم لا يزال يقيم الصلاة في مواقيتها ويؤدي الزكاة)، ويضيف: (ونظراً لعدم إدراك البعض لأشكال العلمنة البنيوية الكامنة هذه، فإنه لا يرصدها. ولذا، يُخفق هذا البعض في تحديد مستويات العلمنة الحقيقية. وعلى هذا، فقد يُصنَّف بلد باعتباره إسلامياً (مثلاً) لأن دستور هذا البلد هو الشريعة الإسلامية مع أن معدلات العلمنة فيه قد تكون أعلى من بلد دستوره ليس بالضرورة إسلامياً ولكن معظم سكانه لا يزالون بمنأى عن آليات العلمنة البنيوية الكامنة التي أشرنا إليها) انتهى. خطورة العلمانية إذن ليست في تجلياتها السياسية فصل الدين عن الدولة والتي شغل بها الإسلاميون منذ صدور أول تنظير أزهري يؤسس لهذا الفصل والذي قدمه الشيخ على عبد الرازق في كتابه الصادم (الإسلام وأصول الحكم) عام 1925.. وإنما كما قلت آنفا بأنه رؤية شاملة للحياة وللكون، مضامينها الفلسفية تنتقل إلينا عبر أدوات تبدو محايدة مثل نوع الملابس وشكل المنزل والأثاث وأفلام السينما والإعلانات والسيارات والمولات (الهايبرات) الضخمة والأسواق والبنوك وما شابه، ولا تتم العلمنة على مستوى البيئة الاجتماعية والمادية البرانية وإنما تتغلغل لتصل إلى باطن الإنسان، إلى مستوى عالم الأحلام والرغبات. وعليه.. فإن الإسلام .. الإسلام وحسب.. وليس (المشروع الإسلامي).. هو البديل الوحيد والقادر على مواجهة العلمانية.. فالأخيرة على نحو ما لخصناه فيما تقدم هي (دين) وليست مشروعا.. (دين وضعي)، وكان من الطبيعي أن يهزم (المسيحية الوضعية) في أوروبا.. ولا يقدر عليه الآن إلا الإسلام بشموليته وكما أنزل، وليس كما لخص في مشاريع أحالته من (كتاب هداية) إلى أدوات للصراع السياسي على السلطة.