يقول ناجي العلي: ولد حنظلة في العاشرة من عمره، وسيظل دائماً في العاشرة، ففي تلك السن غادر الوطن، وحين يعود، حنظلة سيكون بعد في العاشرة، ثم سيأخذ في الكبر بعد ذلك... قوانين الطبيعة المعروفة لا تنطبق عليه، إنه استثناء لأن فقدان الوطن استثناء،.. وستصبح الأمور طبيعيةً حين يعود للوطن..لقد رسمته خلافاً لبعض الرسامين الذين يقومون برسم أنفسهم ويأخذون موقع البطل في رسوماتهم... فالطفل يُمثل موقفاً رمزياً ليس بالنسبة لي فقط... بل بالنسبة لحالة جماعية تعيش مثلي وأعيش مثلها... قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة، في البداية قدمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي ثم أفق كوني إنساني. أما عن سبب إدارة ظهره للقراء فتلك قصة تُروى: في المراحل الأولى رسمتُه ملتقياً وجهاً لوجه مع الناس، وكان يحمل (الكلاشنكوف) وكان أيضاً دائم الحركة وفاعلاً وله دور حقيقي: يناقش باللغة العربية والإنجليزية، بل أكثر من ذلك فقد كان يلعب (الكاراتيه).. يغني الزجل ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشر بالثورة. كنت أحرض الناس.. بعفوية الطفل الذي عقد يديه خلف ظهره، ولكن بعد حرب أكتوبر 1973 (كتفته) باكراً لأن المنطقة ستشهد عملية تطويع وتطبيع مبكرة قبل رحلة (السادات )... من هنا كان التعبير العفوي لتكتيف الطفل هو رفضه وعدم استعداده للمشاركة في هذه الحلول، وقد يعطى تفسيراً أن لهذا الطفل موقفاً سلبياً ينفي عنه دور الإيجابية، لكنني أقول: إنه عندما يرصد تحركات كل أعداء الأمة، ويكشف كافة المؤامرات التي تحاك ضدها، يبين كم لهذا الطفل من إسهامات إيجابية في الموقف ضد المؤامرة... وهذا هو المعنى الإيجابي...أريده مقاتلاً، مناضلاً و.. حقيقة الطفل أنه منحازٌ للفقراء، لأنني أحمل موقفاً طبقياً، لذلك تأتي رسومي على هذا النحو، والمهم رسم الحالات والوقائع وليس رسم الرؤساء والزعماء. إن (حنظلة) شاهد العصر الذي لايموت.. الشاهد الذي دخل الحياة عنوة ولن يغادرها أبداً.. إنه الشاهد الأسطورة، وهذه هي الشخصية غير القابلة للموت، ولدت لتحيا، وتحدت لتستمر، هذا المخلوق الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي، بالتأكيد، وربما لا أبالغ إذا قلت أني قد أستمر به بعد موتي). ... ولو تمعنا جيداً في (حنظلة): هذا الثابت المتحرك في لوحات ناجي العلي، هذه الشخصية المعبرة في معظم رسوم ناجي العلي عن أشد المواقف حراجة بجرأة منقطعة النظير عبر الحركة والصراخ والتعليق الساخر المتكامل مع شخصيات اللوحة وطبيعة الحدث ومفارقاته، لوجدنا أنها تعني أيضاً الطفل العربي المطحون والمصادر الطفولة بفعل الفقر والحرمان والجهل والإحباط والمرض والشقاء.. إن (حنظلة) هو الجيل القادم بكل ما أورثناه إياه من عناء وهزائم وتخلف... إنه ضمير هذه الأمة الحي وصوت البراءة الطفولية الذي لا يهادن، بل يعطى الأشياء ألوانها ومسمياتها الحقيقية فلا مكان للمجاملة - وعن سابق وعي وإدراك - فالأبيض أبيض والأسود أسود، يقول للعميل: أنت عميل، وللمنحرف: أنت منحرف، وللانتهازي: أنت انتهازي، وللمستغل (بكسر الغين) : أنت مستغل.. هكذا وبدون مقدمات وبلا وجل.. تماماً مثلما يعبر عن حبه وتلاحمه مع الوطني والمخلص والشريف عبر الحركة أو الكلمة... (ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا) وهو الراكض بلهفة ماداً ذراعيه عندما يشاهد تلك القبضة الرافعة لعلم فلسطين تشق الأرض لترتفع بعنفوان.. تماماً كما هو ذلك المحتج الرافض والمهاجم بريشته التي تشبه السيف (الميكروفونات) متعددة الأشكال والأحجام، صارخاً بعبارة خالدة (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة). هو أيضاً في لوحة أخرى وفي ذكرى معركة حطين يقول: (كانوا اغتالوه) رداً على الرجل الطيب الذي تمنى لو كان صلاح الدين حياً.. إنه القائم بالفعل في لوحات كثيرة منها رجمه الصهاينة بالحجارة، وحمله (الكلاشنكوف) ورجمه للنجمة السداسية بالحجارة، ورفعه علم فلسطين مكان العلم الإسرائيلي.. إلخ.. صور كثيرة، توضح إلى حد بعيد الدور الإيجابي لهذا ال (حنظلة) الذي لم يكن صدفة حافي القدمين، مرقع الثياب، تخرج من رأسه المدور بضع شعيرات مستقيمة تشبه انبعاث الأشعة.. ف (حنظلة) هو ابن الشعب والمنتمي لطبقة المسحوقين والمحرومين والمظلومين والمشردين والمضطهدين الذي تعج بهم ساحتنا العربية إنه الشخصية المنتمية لقضاياهم والموجهة لهم على طريق الخلاص.. فالشعيرات التي تنطلق من رأسه المدور كالإشعاع في خطوط مستقيمة إنما تعطي الانطباع بأن (حنظلة) يحمل في وعيه موقفاً ينير الدرب لهذا الطبقة الكادحة المضطهدة وجرأته وتحديده الصارخ للجلادين والقتلة والمستغلين (بكسر الغين) والمحتلين، بل وعبر تحديه للموت في شتى صوره.. فها هو (حنظلة) الفاعل والمؤثر والمحرض، (حنظلة) الشاهد والقاص، (حنظلة) الضمير الحي، (حنظلة) ابن الجماهير الذي يكتف يديه معطياً ظهره للقاريء لأنه لا يعرف أن ظهره محمي من أبناء الشعب الذين يقرأون خطابه اليومي المعبر عن تطلعاتهم وآمالهم. نقلاً عن كتاب الموضوع والأداة في فن ناجي العلي أحمد عنبوسي (موقع الفنان ناجي العلي).