بقلم: نزار بولحية حجر صلب سقط على بركة حملة راكدة للانتخابات في تونس. الحجر كان خبرا نشرته في الثامن من الشهر الجاري صحيفة (لو فيغارو) الفرنسية و جاء فيه: أن مفاوضات سرية تجري بين جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي والسلطات التونسية بهدف إنشاء محطة للتنصت بالقرب من الحدود الجنوبية مع ليبيا وأنها وصلت الآن إلى نفق مسدود. سبب الخلاف أو التعثر يعود، وفقا للمصدر نفسه، إلى رفض الجانب الفرنسي فكرة تقاسم المعلومات الاستخبارية المرتقبة من المحطة مع نظرائه التونسيين أصحاب الأرض. الخبر لم يكن مستبعدا في ظل ما تتردد طوال السنوات الأخيرة من أنباء ومعلومات غير مؤكدة حول رغبة أكثر من طرف خارجي بأن يقيم قواعد عسكرية على الأراضي التونسية بعد التطورات الدراماتيكية وحال الفوضى والغموض التي شهدها الوضع في ليبيا. لكن اللافت في الموضوع هو التوقيت الذي أعيد فيه طرح موضوع القواعد العسكرية الأجنبية فوق التراب التونسي وهو توقيت يتزامن مع انطلاق حملة انتخابية يحتدم التنافس فيها بين الأحزاب والقوائم المستقلة على مقاعد البرلمان المقبل، وتليها مباشرة بعد مدة قصيرة من ذلك حملة انتخابات الرئاسة، كما يوافق أيضا مرور أكثر من خمسين عاما على جلاء الاستعمار الفرنسي عن آخر قاعدة عسكرية ظل محتفظا بها في البلاد وهي قاعدة بنزرت في الشمال التونسي. فضلا عما يتردد من وجود مساع جديدة يبذلها الجانب الجزائري بمساعدة أطراف تونسية فاعلة للوساطة بين فرقاء الأزمة الليبية من أجل دفعهم نحو الجلوس إلى طاولة الحوار. ليس واضحا إنْ كان الحجر الفرنسي يحرك مساحات واسعة من ركود الحملات الدعائية للمتنافسين في الانتخابات، وحتى النفي الرسمي للخبر على لسان الناطق باسم وزارة الدفاع وحرصه على التاكيد في تصريح إذاعي على(أن إنشاء قواعد أجنبية أو محطات تنصت أو تواجد لقوات أجنبية على التراب التونسي من شأنه أن يمس السيادة الوطنية والأمن القومي). لا يحجب بالمقابل أمرا مهما وهو أن ما نشرته الصحيفة الفرنسية وبقطع النظر عن صدقيته أم لا يمثل بالون اختبار مثالي للمرحلة المقبلة بعد الانتخابات. فالنجاح في اجتياز أولى عقبات الانتقال الديمقراطي بإرساء مؤسسات دائمة ومستقرة لن يحول البلد إلى جزيرة ديمقراطية آمنة ومعزولة بإمكانها الاستمرار بالعيش بهدوء واطمئنان وسط بحور متلاطمة من الفوضى والعنف والدماء تمتد على مساحات شاسعة في الجوار. لا الموقع الجغرافي ولا الثقل الاقتصادي أو العسكري ولا حتى رؤية سطحية ومحدودة لما يجري داخل المنطقة من تحركات وخلط متعمد للأوراق وإعادة توزيع للأدوار يسمح بتصور مماثل. المصالح الاستعمارية القديمة فليس بمقدور تونس أن تبقى بمنأى عن تلك الهجمة الغربية القوية والشرسة على أجزاء مهمة من القارة تحت مسمى محاربة الإرهاب. ويكفي النظر إلى تقديرات نشرتها مجلة (جون أفريك) المختصة بالشؤون الأفريقية في عددها الأخير وتشير إلى أن أكثر من عشرين ألف جندي أجنبي معظمهم من الفرنسيين والأمريكان يتوزعون على طول المنطقة الممتدة من موريتانيا إلى جيبوتي، فضلا عن قيام فرنسا بإنشاء موقع عسكري متقدم شمال النيجر لا يبعد سوى 200 كلم عن الحدود الليبية إلى جانب قاعدتها العسكرية القديمة في العاصمة نيامي. وما نقل عن المتحدث الرسمي باسم الجيش الفرنسي جيل جارون من قوله (أن مسعى محاربة الإرهاب عالمي... ونحن على خط الجبهة في منطقة الساحل والصحراء ونقدم الدعم في العراق). لفهم جانب ولو بسيط من تلك الهجمة لا تفعل فرنسا ذلك لأجل عيون الأفارقة أو لدحر إرهاب يبعد عنها آلاف الكيلومترات. إنها تنفق الأموال الطائلة وتستنفر قواتها في البر والجو لأجل هدف واحد هو الحفاظ على عرش مصالحها الاستعمارية القديمة المهدد بمنافسين جدد وجديين من الشرق والغرب. الغول نفسه الذي يحشد الأمريكان أكثر من أربعين دولة لمحاربته في الشرق هو الذي ترغب باريس بحشد إقليمي مصغر له في الغرب، أي في الساحل والصحراء، لإعلان حرب مفتوحة عليه تدفع الشعوب القسط الأكبر من فاتورتها عالية التكاليف. داخل هذا البلد الصغير الذي يعيش حملة انتخابية روتينية منزوعة الحرارة تقدم معظم الأحزاب التونسية وعودا وتأكيدات على أن كل واحد منها يمتلك الحقوق الحصرية والوحيدة لمفاتيح علي بابا التي ستسمح له فور انتصاره وفوزه بالأصوات بأن يفتح مغارة الثروة والاستقرار والأمان على مصراعيها وبلا مقابل في وجوه التونسيين بلا استثناء. الأصوات القليلة التي ترى بأنه (حتى بعد الانتخابات لن نكون في وضع ديمقراطية مستقرة بل هي ديمقراطية انتقالية تحتاج حكومة وحدة وطنية تعالج عديد التحديات في ظل الوضع الإقليمي المضطرب)، والكلام للشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة في تصريح لوكالة رويترز ويتم اتهامها في الغالب بالمناورة وسوء النية وتقابل على الفور بدعوات من قبيل أنه (يجب على التونسيين أن يختاروا بين التقدم والدولة الدينية). والدعوة صدرت عن زعيم حركة نداء تونس في اجتماع حزبي بفرنسا. لكن كل ذلك قد يكون ذلك جزءا من مشهد سياسي مضطرب ومشوش لم يتخلص بعد من رواسب استقطاب إيديولوجي حاد، في حين أن التوافق المنتظر المقبل قد يكون بالمقابل حقيقة لا يمكن الاستمرار في تجاهلها أو إنكارها طويلا لأنها لم تعد فقط حاجة وطلبا محليا أو حزبيا بل رغبة ومصلحة تدفع نحوها بعض القوى الكبرى الدولية. والصيغة الأخيرة التي عرضها الشيخ راشد الغنوشي وهي التوافق المفتوح على الجميع بما في ذلك (الفلول) قد تكون الأنسب للداخل لكن الأكثر تطمينا لمخاوف الخارج أيضا. أما ما يهم التونسيين الآن فهو ليس فقط مرور الانتخابات بهدوء وسلام ثم بناء مؤسسات دائمة ومستقرة بعد ذلك بل استعادة أمل مفقود بأن يصبحوا بالفعل أحرارا داخل بلد آمن ومطمئن وبأن ديمقراطيتهم لن تعود يوما بالوبال عليهم، ولن تجلب لهم مزيدا من تدخلات أجنبية قد تلحقهم نيرانها وشظاياها حتى لو كان ذلك باسم مقاومة إرهاب في الداخل أو الخارج أو ب (تعاون) مع المستعمر السابق أو غيره مثل تقاسم معلومات محطة التجسس التي ذكرتها الصحيفة الفرنسية والتي يبقى الفصل فيها وحسمها واحدا من تحديات كثيرة وخطيرة تنتظر الحكومة الوفاقية المقبلة.