لقد شهد شهر ربيع الأول أحداثًا مهمة في هذه الأمة، وشغلت هذه الأحداث محلًا كبيرًا من الاهتمام، بل وجانبًا كبيرًا من الاختلاف، إنَّ أبرز أحداث السيرة النبوية التي وقعت في هذا الشهر هي: مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ووفاته، وهذه الأحداث جميعها مهمة في حياة المسلمين بل في حياة الثقلين. ومن الأحداث المهمة في هذا الشهر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هو وفاته عليه الصلاة والسلام، لأنَّ وفاته صلى الله عليه وسلم ليست كوفاة سائر النَّاس، ولا كسائر الأنبياء؛ إذ بموته صلى الله عليه وسلم انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض. وقد نبّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظم هذه المصيبة التي حلّت بالمسلمين فقال: يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي ، قال السندي: فليتعزّ أي ويخفِّف على نفسه مؤونة تلك المصيبة بتذكر هذه المصيبة العظيمة، إذ الصّغيرة تضمحلّ في جنب الكبيرة فحيث صبر على الكبيرة لا ينبغي أنْ يبالي بالصّغيرة. وحرصًا على التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من خلال النصيحة والتوجيه والإرشاد أُذكِّر بحديث تميم الدَّاري رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدِّين النَّصيحة ، قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم معنى ربيع الأول وسبب تسميته بهذا الاسم أولاً: معنى ربيع الأول: سمي بذلك لأنَّ تسميته جاءت في الربيع فلزمه ذلك الاسم. والرِّبْعُ: محله، يقال: ما أوسع ربع بني فلان! وربعت الإبل، إذا وردت الربع، يقال: جاءت الإبل روابع، قال ابن السكيت: ربع الرجل، يربع، إذا وقف وتحبَّس. والرَّبيعُ عند العرب ربيعان: ربيع الشهور، وربيع الأزمنة، فربيع الشهور شهران بعد صفر، ولا يقال فيه إلا شهر ربيع الأول، وشهر ربيع الآخر، وأما ربيع الأزمنة، فربيعان: الربيع الأول، وهو الفصل الذي تأتي فيه الكمأةُ والنور، وهو ربيع الكلأ، والربيع الثاني وهو الفصل الذي تدرك فيه الثمار، وفي الناس من يسمِّيه الربيع الأول، وجمع الربيع: أربعاء وأربعة، مثل نصيب وأنصباء وأنصبة، قال يعقوب: ويجمع ربيع الكلأ أربعة، وربيع الجداول أربعاء، والربيع: المطر في الربيع، تقول منه: ربعت الأرض فهي مربوعة. ثانيًا: تسميته: قد جاء في تسميته بهذا الاسم عدة روايات؛ منها أنَّ العرب كانوا يخصّبون فيه ما أصابوه من أسلاب في صفر؛ حيث إنَّ صفرًا كان أول شهور الإغارة على القبائل عقب المحرم. وقيل: بل سُمِّي كذلك لارتِباع الناس والدواب فيه وفي الشهر الذي يليه (ربيع الآخر)، لأن هذين الشهريْن كانا يأتيان في الفصل المسمَّى خريفًا وتسميه العرب ربيعًا، وتسمي الربيع صيفًا والصيف قيظًا. وهناك رأي يقول: إنَّ العرب كانت تقسم الشتاء قسمين، أطلقوا عليهما الربيعيْن: الأول منهما ربيع الماء والأمطار، والثاني ربيع النبات؛ لأن فيه ينتهي النبات منتهاه، بل إن الشتاء كله ربيع عند العرب من أجل الندّى. وفي الحقيقة، كان الربيع عند العرب ربيعيْن: ربيع الشهور، وربيع الأزمنة؛ فربيع الشهور، شهران بعد صفر؛ وهما ربيع الأول وربيع الآخر. وأما ربيع الأزمنة، فربيعان: الرَّبيع الأوَّل؛ وهو الفصل الذي تأتي فيه الكمأة والنَّوْر، وتطلق عليه العرب: ربيع الكلأ. والثاني: هو الفصل الذي تُدْرَكُ فيه الثمار، ومنهم من يسميه الربيع الثاني، ومنهم من يسميه الربيع الأول كسابقه. لذا، كان أبو الغوث يقول: العرب تجعل السنة ستة أزمنة: شهران منها الربيع الأول، وشهران صيف، وشهران قيظ، وشهران الربيع الثاني، وشهران خريف، وشهران شتاء. أهم الأحداث التي وقعت في ربيع الأول أولاً: ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ولد صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم الإثنين فقال: ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ . أما عن الشهر الذي ولد فيه وتاريخ هذا اليوم فقد اختلف فيه العلماء، فقال ابن إسحاق: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول، عام الفيل. وقال ابن كثير: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول وقيل: ثامنة، وقيل: عاشرة، وقيل: لثنتي عشرة منه، وقال الزبير بن بكار ولد في رمضان وهو شاذ حكاه السهيلي في (الروض)(10)، وقيل: في التاسع من شهر ربيع الأول. أما العام: فقال ابن إسحاق: عام الفيل، قال ابن كثير: وهو المشهور عند الجمهور، وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي شيخ البخاري: وهو الذي لا يشك فيه أحدٌ من العلماء. وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفيل. يعني عام الفيل وروى ابن إسحاق وأبو نعيم والبيهقي عن المطلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قال: ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل كنا لدَيْن. وسأل عثمان بن عفان رضي الله عنه قياث بن أشيم الكناني ثم الليثي: يا قياث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن منه! ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل ووقفت بي أمي على خذق الفيل أخضر محيلا. وعلى هذا فقيل: بعد الفيل بخمسين يومًا. قال ابن كثير وهو أشهر، وصححه المسعودي والسهيلي، وزاد أنه الأشهر والأكثر وقيل: بزيادة خمس، وقيل: بزيادة ثمان. وروى ابن مسعود وابن عساكر عن أبي جعفر الباقر: قال: كان قدوم أصحاب الفيل في النصف من المحرم ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بخمس وخمسين ليلة. وكان مولده صلى الله عليه وسلم لأربعين خلت من ملك كسرى أنو شروان، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني والعشرين من شهر أفريل سنة 571، وقيل: 570. ومن هنا نأتي على القول بأنه ولد في يوم الإثنين في شهر ربيع الأول لأول عام من حادثة الفيل، هذا هو القول الذي عليه أغلب العلماء. وروى ابن سعد أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: لما ولدته خرج مني نور أضاءت له قصور الشام . وقد روي أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت. روى ذلك البيهقي. قال الشيخ الألباني رحمه الله ذكر ارتجاس الإيوان وسقوط الشرفات وخمود النيران ورؤيا الموبذان وغير ذلك من الدلالات وليس فيه شيء ويقول الدكتور أكرم ضياء العمري: ... وكذلك وردت روايات موضوعة حول هواتف الجان في ليلة مولده وتبشيرها به، وانتكاس بعض الأصنام في المعابد الوثنية بمكة، وحول ارتجاس إيوان كسرى، وسقوط شرفاته، وخمود نيران المجوس، وغيض بحيرة ساوة، ورؤيا الموبذان الخيل العربية تقطع دجلة، وتنتشر في بلاد الفرس، كذلك وردت روايات ضعيفة عن إخبار يهود بليلة مولده، وإخبار الراهب عيصا بمر الظهران بمولده. وقول العباس عمّه إنه رآه في المهد يناغي القمر، ولكن ثمة أخبار تقوى ببعضها إلى الحسن احتفت بمولده، منها ما يفيد أن آمنة رأت حين وضعته نورًا خرج منها أضاءت منه قصور بصرى من أرض الشام . ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده، فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له، واختار له اسم محمد.. ثانيًا: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت هجرته صلى الله عليه وسلم من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة، ودخوله لها في 12 ربيع الأول سنة 622م، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة يوم الخميس أول يوم من ربيع الأول، وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت منه، وذلك يوم الإثنين الظهر لثلاث وخمسين سنة من مولده 28 يونيه 622م. والهجرة النبويَّة حدث عظيم في تاريخ الأمة الإسلامية؛ لأنها كانت الخطوة الأولى في بناء الدولة الإسلامية؛ لذلك حرصت قريش أن لا يتم ذلك، وجاهدت في محاولة منع النبي صلى الله عليه وسلم من الوصول إلى المدينة، وحدث الهجرة أهمُّ عند الصحابة من حادث مولده صلى الله عليه وسلم بدليل أنهم حينما أرادوا أن يجعلوا للمسلمين تاريخًا خاصًّا بهم، نظروا في أعظم الأحداث التي يمكن أن يؤرخوا بها، فخيَّرهم الفاروق عمر رضي الله عنه بين حادثتين لا ثالث لهما، وهما: الهجرة والبعثة، ولم يعتبروا مولده صلى الله عليه وسلم من الأهمِّية التي تجعله حدثًا يؤرخون به. ثالثًا: وفاة النبي صلى الله عليه وسلم موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو حدث جليل عظيم، ولم يختلف على يوم وفاته، حيث كان يوم الإثنين من شهر ربيع الأول، ورأى الجمهور أنه كان في اليوم الثاني عشر منه، يقول ابن رجب رحمه الله ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون، فمنهم من دُهش فخولط، ومنهم من أُقْعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية قال صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصابه بي؛ فإنّها أعظم المصائب . قال القرطبي وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المصيبة به أعظم من كل مصيبة يصاب بها المسلم بعده إلى يوم القيامة؛ انقطع الوحي، وماتت النبوَّة، وكان أول ظهور الشر بارتداد العرب وغير ذلك، وكان أول انقطاع الخير، وأول نقصانه ، فأشار رحمه الله إلى أمرٍ عظيمٍ انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهو: انقطاع الوحي الذي كان يتنزل من يوم أهبط آدم إلى الأرض؛ فانقطع بموته صلى الله عليه وسلم. دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على أم أيمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يتفقدانها، فوجداها تبكي، فقال لها أبو بكر: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله، قالت: والله ما أبكي أن لا أكون أعلم ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أنّ الوحي انقطع من السماء، فهيَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان. لقد كان موت النبي صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة ابتليت بها الأمة مطلقًا، وكان له أثر عظيم على نفوس الصحابة وحالهم؛ حتى صدق فيهم وصف عائشة رضي الله عنها: صار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم. يقول أنس رضي الله عنه: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلمّا كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كلَّ شيء، وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا . فأيُّ احتفال يكون في يوم رزئت فيه الأمة بأعظم مصيبة في تاريخها، يقول الفاكهاني: هذا مع أنّ الشهر الذي وُلِد فيه صلى الله عليه وسلم هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه .