بقلم: عبد العزيز كحيل ليست الإساءة إلى الإسلام والقيم والذوق الرفيع حكرا على الفرنكوفونيّين بالجزائر _ وإن كانوا هم سادة ذلك وروّاده - بل هي بضاعة كثير من أبناء اللسان العربي هنا وهناك الذين سبقوا بترهاتهم مولود معمري وآسيا جبار ورشيد ميموني ورشيد بوجدرة ومحمد سيفاوي وياسمينة خضرة وعبد الوهاب صلصل، فأساءوا إساءات بالغة باسم الأدب. يفترض في الأدب أن يعبّر عن عواطف الإنسان ومشاعره بأرقى الأساليب المؤثرة سواء كانت نثرا أو شعرا، وهو يتوخّى البحث عن الجمال بكلّ أشكاله وصوره، يستلهمه ويبرزه ويحبّبه للقارئ والمستمع مهما كان الموضوع الذي يتناوله، هذا ما هو الأدب كما يؤمن به أصحاب الرسالات السامية والأخلاق الرفيعة الباحثون عن الحقّ والخير والجمال والفضيلة، لا يتذرّعون بالواقع المنحرف ليزيدوه انحرافا ويجعلوا منه النموذج المبتغى فيطمسون المعاني التي يدعو إليها الدين والفطرة والخلق الكريم ويحوّلون الأدب العالي إلى محطّات للشذوذ الفكري والثقافي والفلسفي والسلوكي، ألسنا نرى كيف لخّص بعضهم الشعر العربي في غراميّات عمر بن أبي ربيعة وخمريّات أبي نواس وفلسفة ابن عربي المنحرفة عن الإسلام؟ وقد احتفوا بذلك أيّما احتفاء وأهالوا التراب على روائع تراثنا وشكّكوا حتّى في نسبته إلى أصحابه - بغير دليل - وسخروا منه وأزاحوه عن المناهج الدراسية، وشوّهوا لغة الأدب _ وهي وعاؤه وقرينه _ بما سمّوه الشعر الحرّ، وأكثره أقرب إلى نقيق الضفادع وبغام الدوابّ، ليس فيه سبك العربية ولا رونقها، أمّا محتواه فهو موضوع هذا البحث القصير المختصر. * الاشتراكية والأدب فقد تميزت فترة الستينات والسبعينات من القرن العشرين باستحواذ النزعة اليسارية على الساحة السياسية في أغلب البلاد العربية، وشاعت في ظلّها الاشتراكية التي أفرزت- مثلها مثل الليبرالية- المادية والإباحية والعلمانية، وانعكس ذلك على الإنتاج الأدبي بصفة واضحة فعجّت البلاد بخلق مستهجن غريب أطلقت عليه أسماء برّاقة لا يستحقّها كالشعراء والروائيين والقصّاص، تجمع بينهم ميزة أساسية هي التسبيح بحمد الفلسفة السائدة (القومية العربية،البعث، الاشتراكية) والنظام الحاكم، ولا غرابة في ذلك، فهؤلاء الأدباء ليسوا في أكثر الأحيان سوى مجرد صنائع تغدق عليها الألقاب والأموال لتملأ الساحة التي أفرغتها تلك الفلسفات والأنظمة من الأصوات الحرّة والأقلام النزيهة، وملأ المستأجرون الدنيا بعجيج لا يطاق أذهب جمال اللغة وتجاسر على مقام القصيدة ومرّغ القصة في وحل الغزيرة وأهان الفضيلة وشان الأدب والفنّ ، ومازلنا نذكر موكب الفارغات (بتعبير سيد قطب رحمه الله) الذي تربّع منذ السبعينات على عرش الأدب في البلاد العربية، وهو عبارة عن مجموعة من الوصوليين والمرضى والعاجزين صيغوا على عين الحاكم ،لا يحسنون إلا المديح واقتحام الأبواب المشرعة لأنهم أعجز من أن يفتحوا الأبواب المغلقة، هؤلاء الناس وأشباههم في الجزائر ومصر وسوريا والعراق وغيرها تفنّنوا في ظل سطوة المذاهب الإلحادية واللاّدينية في ذمّ كلّ ما يمتّ بصلة للإسلام وشريعته ورموزه، وراحوا يؤدّون شعائر الولاء والعبادة والتقديس- على سبيل النفاق غالبا- لأصنام حديثة هي الوطن والثورة والحرية والتقدمية والحداثة، فهؤلاء الأدباء يتميّزون باغتراب حضاري صارخ تنكّروا في خضمّه لدينهم وقيمهم وروابطهم الأخلاقية والاجتماعية... وإلى جانب الاغتراب يتميّزون بانحراف عقيدي شديد يمسخ آدميتهم فضلا عن دينهم، والغرض من هذا المقال هو إعطاء نماذج من هذا الاغتراب وهذا الانحراف حتى يتبيّن مدى الفساد الذي أصاب أمّتنا حتى في النسق الجمالي والذوق والتفسير الشعوري للحياة، ولابدّ قبل ذلك من الإشارة إلى أن الاغتراب والانحراف ليسا وليدي الفترة التي تحدّثنا عنها إنما ظهرا مع مرحلة الانهزام النفسي أمام الغرب وواكبا أحقابا من الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية اللادينية، من ذلك على سبيل المثال أن أحمد شوقي قال مخاطبا مصر: لو أنني دعيت لكنت ديني -- أدير إليك قبل البيت وجهي عليه أقابل الحتم المجابا -- إذا فهت الشهادة والمتابا فالوطن استبدل به الكعبة بيت الله...ونحن لا نظنّ بأمير الشعراء سوءا، لكنّه الانهزام أمام هجمة الوطنية بالمفهوم الغربي جعل القلم يزيغ ويغالي. ولعلّه من المناسب أن نذكر أن أحد كبار منظري حزب البعث - (منيف الرزاز) - وكان يستقبل في البلاد العربية (التقدمية) استقبال الأفذاذ في الأيام الخوالي _ قد قال: (لو امتدّت يد الله إلى البعث لقطعناها). وانظروا إلى كاتب ياسين- رأس الأدب الفرنكوفوني- كيف أعطى لبعض ما كتب في السنوات الأخيرة من حياته هذا العنوان الموحي ((الأجداد يزدادون شراسة))، وهو يشير إلى قوة الصحوة الإسلامية التي تفرض على المجتمع نظرة الأجداد- حسب رأيه- أي قيم الماضي السحيق الذي تجاوزه الزمن. أمّا عبد الحميد بن هدّوقة الذي سعوا إلى تنصيبه على رأس الراوية الجزائرية المكتوبة بالعربية فقطب الرحى في كتاباته هو تحرير المرأة من قيود الدين وأسر (الدراويش) كما يسمّيهم، ونسج على نفس المنوال الطاهر وطار وأحلام مستغاني، وإنه لمن العسير قراءة كتابات هؤلاء لأنها لا تُبحر إلا في عالم الجنس والدعارة. * اغتراب وانحراف إذا انتقلنا إلى شهادات حيّة عن اغتراب أدبائنا وانحرافهم نورد مقاطع معبّرة من رواية للطاهر بن جلون - الكاتب المغربي الفرنكوفوني المقيم بفرنسا - وقصائد لبعض الشعراء المشهورين من المشرق العربي. يقول بن جلون في رواية (الليلة المقدّسة) وهو يتحدث عن المؤذن: (قد ينخفض صوت هذا الغبي الذي ينهق، يجب أن يعاش الدين في صمت وتأمّل وليس في هذه الجلبة التي تعكّر صفو ملائكة القدر)، ويقول: (أحبّ القرآن كشعر رائع وأمقت الذين يستغلّونه في تشويشات ويحدّون من حرية الفكر، إنهم منافقون ويتحدّثون عن الفاحشة قبيل منتصف الليل بأحد المساجد)، ويقول أيضا (وكما في المسرح رأيت خمس نساء(...) لابسات بنفس الطريقة جلاّبة رمادية ووشاحا أبيض يخفي الشعر ابتداء من الحاجبين، اليدان في قفازين والوجه شاحب لا أثر فيه لأي تبرّج، كن ّجميعا ذميمات وينبعث منهنّ الضيق، لقد فهمت من كانت أمامي: طائفة من الأخوات المسلمات المتعصّبات الشرسات(...)مجموعة من المخبولات). 1- رشيد سليم الخوري: يقول: صياما إلى أن يفطر السيف بالدم--سلام على كفر يوحّد بيننا وسلاما إلى أن ينطق الحق يا فمي--أهلا وسهلا بعده بجهنّم. ألا يذكّرنا هذا الاستهتار بقول ابن هاني الأندلسي يمدح بعض الأمراء: ما شئت لا ما شاءت الأقدار-- فاحكم فأنت الواحد القهار. 2- نزار قباني: يقول مخاطبا عبد الناصر بعد وفاته: قتلناك يا آخر الأنبياء قتلناك، ليس جديدا علينا قتل الصحابة والأولياء. ويقول في الديوان نفسه (لا): من بعد موت الله مشنوقا على باب المدينة لم يبق للصلاة قيمة، لم يبق للكفر أو الإيمان قيمة. ويقول في ديوان (الرسم بالكلمات): أنا أرفض الإحسان من يد خالقي قد يأخذ شكلا مفجعا ويقول في ديوان 100رسالة حب: حين وزّع الله النساء على الرجال..وأعطاني إياك، شعرت أنّه انحاز بصورة مكشوفة إلي وخالف كل الكتب السماوية التي ألّفها. وختم بهذا الكفر البواح من الديوان نفسه بقوله: لأنني أحبّك، يحدث شيء غير عادي في تقاليد السماء، يصبح الملائكة أحرارا في ممارسة الحبّ، ويتزوج الله حبيبته. 3-محمود درويش: هل نستطيع الموت في ميلادنا الكحلي؟ أم نحتلّ مئذنة ونعلن في القبائل أن يثرب أجرت قرآنها ليهود خيبر الله أكبر هذه آياتنا فاقرأ باسم الفدائي الذي خلقا من حرمة أفقا (قلت: فالشاعر التقدمي ينسخ آيات الله ويتلو قرآنا جديدا). 4-صلاح عبد الصبور: وهو رجل جمع في شعره من الضلال ألوانا فيتغنىّ بالعبث والوجودية وتأليه الإنسان في تقليد غبيّ للفكر الغربي الوافد ، يقول مثلا: إن السأم هو جوهر إنسان هذا العصر إنسان هذا العصر سيد الحياة لأنه يعيشها سأما يزني بها سأما يموتها سأما (من ديوان أقول لكم) واسمع إليه يجمع بين النبوّة والسحر في تخريف غريب (ديوان الناس في بلادي): وقالت لي الأرض الملك لك تموت الظلال ويحيا الوهج (...) فيا صيحة لم يقلها نبي ولا ساحر همجي.. وفي الكلام الآتي تلخيص لرؤية الشاعر عن الله تعالى والإنسان: ما غاية الإنسان من اتعابه؟ما غاية الحياة؟ يا أيها الإله كم أنت قاس موحش يا أيها الإله. (الديوان السابق) وبعد، فهذه نُقول تغني عن غيرها في بيان ما يعانيه بعض أدباء العربية من غربة حضارية وانحراف عقيدي وأخلاقي ومن غبش في التصوّر، ولعلّ ذلك ما جلب لهم الشهرة التي صنعتها لهم الأوساط التغريبية المستحوذة على ساحة الأدب ووسائل الإعلام، وقد تصدّى لعبثهم أصحاب الأيدي المتوضئة والأقلام النزيهة، فأنتجوا أشعارا رائدة وأدبا يستحقّ اسمه، لكنهم مازالوا قلّة مهمّشة يحتاجون إلى تنام ورعاية وتشجيع لينشروا عبر القصيدة والرواية والقصّة التصور الصحيح عن الله والإنسان والحياة، ويحاربوا القبح ويقيموا صرحا للجمال.