وإنك لعلي خلق عظيم كان يعرف حق ربه عليه، وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وعلى الرغم من ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فيدعو ويسبح، ويخشع لله حتى يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل. الحمد لله الذي بعث لنا رسولاً ليتمم لنا مكارم الأخلاق والصفات، وجعل له القرآن خلقًا، وامتن عليه بأفضل السمات، ثم أثنى عليه قائلاً: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. والصلاة والسلام على من زكاه رب العالمين، ومدحه في كتاب يتلى إلى يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما: (أن هشام بن حكيم سأل عائشة -رضي الله عنها- عن خلق رسول الله ، فقالت: خلقه القرآن). فالناظر في سيرة رسول الله يجدها مثلاً حيًّا لحسن الخلق، حيث لخص رسول الله الهدف من بعثته في قوله: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) [1]. فكان يدعو إلى الله بأخلاقه، كما يدعو إليه بأقواله. وكتب السيرة مليئة بمواقف إن دلت على شيء فإنما تدل على حسن خلق النبي، ولو أردنا سرد هذه المواقف لم تسعنا هذه الورقات القليلة؛ لذا سنأخذ قطرة من فيض أخلاق النبي التي تحلى بها في بعض مواقفه حتى نتأسى به؛ امتثالاً لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]. أخلاق النبي مع الله: فقد كان يعرف حق ربه عليه، وهو الذي قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وعلى الرغم من ذلك كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه -صلوات ربي وسلامه عليه- ويسجد فيدعو ويسبح ويدعو ويثني على الله تبارك وتعالى، ويخشع لله حتى يُسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل. وعن عائشة -رضي الله عنها-: أن نبي الله كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: (أفلا أكون عبدًا شكورًا)[]. أخلاق النبي مع أهله: قال رسول الله: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) [وكان من كريم أخلاقه في تعامله مع أهله وزوجه أنه كان يُحسن إليهم ويرأف بهم ويتلطّف إليهم ويتودّد إليهم، فكان يمازح أهله ويلاطفهم ويداعبهم، وكان من شأنه أن يرقّق اسم عائشة -رضي الله عنها- كأن يقول لها: (يا عائش)، ويقول لها: (يا حميراء)، ويُكرمها بأن يناديها باسم أبيها بأن يقول لها: (يا ابنة الصديق)، وما ذلك إلا توددًا وتقربًا وتلطفًا إليها واحترامًا وتقديرًا لأهلها. وكان يعين أهله ويساعدهم في أمورهم ويكون في حاجتهم، وكانت عائشة تغتسل معه من إناءٍ واحد، فيقول لها: (دعي لي. وتقول له: دع لي)]. وعن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: (كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم). وعن عائشة -رضي الله عنها- أيضًا قالت: (خرجت مع رسول الله في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال للناس: تقدموا. فتقدموا، ثم قال لي: تعالي حتى أسابقك. فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملت اللحم وبدنت خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: تقدموا. فتقدموا، ثم قال لي: تعالي أسابقك. فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول: هذه بتلك)، وكان يعدل بين نسائه ويتحمل ما قد يقع من بعضهن من غيرة؛ فعن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها (أتت بطعامٍ في صحفةٍ لها إلى رسول الله وأصحابه، فجاءت عائشة... ومعها فِهرٌ ففلقت به الصحفة، فجمع النبي بين فلقتي الصحفة وهو يقول: (كلوا، غارت أُمكم) مرتين، ثم أخذ رسول الله صحفة عائشة فبعث بها إلى أُم سلمة، وأعطى صحفة أُم سلمة عائشة). أخلاق النبي مع أصحابه: عن أنس قال: (كان النبي إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه من وجهه حتى يكون الرجل هو يصرفه، ولم ير مقدمًا ركبتيه بين يدي جليس له). وكان رسول الله يكره أن يقوم له أحد؛ فعن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله: (من أحب أن يمثل له الرجال قيامًا، فليتبوأ مقعده من النار). وكان من هديه أن يمزح مع أصحابه؛ فعن الحسن البصري قال: (أتت عجوز للنبي فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة. فقال: يا أم فلان، إن الجنة لا يدخلها عجوز. فولت وهي تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز؛ إن الله يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 35-37]. أخلاق النبي مع الأطفال: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس أنه قال: (كان يمر بالصبيان فيسلم عليهم). وكان (يحمل أمامة بنت زينب -ابنة رسول الله - وهو يصلي بالناس إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها). وجاء الحسن والحسين -رضي الله عنهما- وهو يخطب فجعلا يمشيان ويعثران، فنزل النبي من المنبر فحملهما حتى وضعهما بين يديه، ثم قال: (صدق الله ورسوله {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]؛ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما). أخلاق النبي مع الخدم: عن أنس قال: (خدمت النبي عشر سنين، والله ما قال أف قط، ولا قال لشيء لم فعلت كذا، وهلا فعلت كذا). وعن عائشة -رضي الله تعالى- عنها قالت: (ما ضرب رسول الله خادمًا له، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله)[]. أخلاق النبي مع أعدائه: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: (لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم). قال: (فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين). فقال له رسول الله: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئًا). وعن أبي هريرة أنه قال: عندما قيل له: ادع على المشركين، قال: (إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة)[16]. أخلاق النبي في التعامل مع المخطئين: عن أنس بن مالك قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله: مَه مَه. قال: قال رسول الله : (لا تزرموه، دعوه). فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله دعاه فقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن). قال: فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء فشنّه عليه. وعن أبي أُمامة قال: إن فتىً شابًا أتى النبي فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه. فقال له: (ادنه). فدنا منه قريبًا، قال: (أتحبّه لأمّك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم). قال: (أفتحبه لابنتك؟) قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس جميعًا يحبونه لبناتهم). قال: (أفتحبه لأختك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس جميعًا يحبونه لأخواتهم). قال: (أفتحبه لعمتك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس جميعًا يحبونه لعماتهم). قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: (ولا الناس جميعًا يحبونه لخالاتهم). قال: فوضع يده عليه، وقال: (اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه). فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء[]. هذا غيضٌ من فيض، ونقطة من بحر، وقليل من كثير من أخلاق البشير النذير السراج المنير، فما أحوجنا أن نملأ بمحبته قلوبنا! وما أحوجنا أن نربي على هذه السنة والأخلاق الكريمة صغارنا وكبارنا! ما أحوجنا أن نتربى عليها مساء صباح، ونضع أخلاق النبي نصب أعيننا؛ لتظهر آثارها علينا ليلاً ونهارًا، فبحسب متابعته تكون العزة والكفاية، والنصرة والولاية والتأييد، والهداية والفلاح والنجاة، وطيب العيش في الدنيا والآخرة.