عندما أصدر كتابه الأخير (فرنسا المريضة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي) الشهر الماضي لم يضع الباحث والمثقّف الفرنسي باسكال بونيفاس في حسبانه أن إسرائيل ستعلن عدوانا جديدا على غزّة، وأن تداعيات هذه الحرب القذرة في الساحة الفرنسية ستكون خير سندٍ واقعي لتشخيصه الانتقادي للتبعية الفرنسية العمياء للسياسة الإسرائيلية. فقد شاهد العالم أجمع اندلاع أعمال العنف في قلب باريس بين متعاطفين ومتضامنين مع القضية الفلسطينية وقوى الأمن بعد أن منعت السلطات تظاهرة للتنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزّة، وإثر تصريحات الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند التي عبّر فيها عن مساندته المطلقة لإسرائيل غداة اليوم الأول للعدوان. ذلك أن الغضب بلغ أوجه في أوساط الفرنسيين المتعاطفين مع القضية الفلسطينية والجاليات العربية والإسلامية بسبب الانحياز الفرنسي السافر إلى المعتدي والتجاهل الفاضح للضحايا الفلسطينيين، وأيضا بسبب تحكّم اللوبي الإسرائيلي في وسائل الإعلام الفرنسية التي خصّصت في الأيّام الأولى من القصف الإسرائيلي ل (معاناة) المستوطنين من صواريخ (حماس) حيّزا أكبر بكثير من الحيّز المخصّص للضحايا الفعليين. كلّ هذا خلق حالة من التوتّر الشديد في الساحة الفرنسية وجعل بعض شباب الجاليات العربية يفجّرون غضبهم في الشارع مصطدمين مع قوات الأمن، حتى أن صحيفة (ليبراسيون) كتبت على صدر صفحتها الأولى بالبنط العريض على خلفية صورة صادمة لمتظاهرين وسط الحرائق: (غزة: الحرب هناك والانفجار هنا). * حملة الصهيونية على بونيفاس كتاب بونيفاس جاء في التوقيت المناسب، فهو يحلّل التأثير المتزايد والخطير الذي يمارسه اللوبي الإسرائيلي ممثّلا في (المجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية في فرنسا) على السياسة الفرنسية وتداعيات هذا التأثير السلبية على المجتمع الفرنسي والسلِم الاجتماعي. ففي فرنسا، يقول بونيفاس، يحقّ للجميع انتقاد أيّ حكومة في العالم، بما فيها الحكومة الفرنسية، إلاّ حكومات إسرائيل فهي خطّ أحمر، لا يمكن تجاوزه. ويرى بونيفاس أنه من العار استغلال مقولة معاداة السامية لحماية الحكومات الإسرائيلية من المحاسبة وتبرير جرائمها المتواصلة. فاللوبي الإسرائيلي صار متخصّصا في إشهار هذه الفزّاعة في وجه كلّ من يتجرّأ على انتقاد إسرائيل ولمنع كلّ ما من شأنه فضح أو حتى انتقاد السياسة الإسرائيلية. والواقع أن بونيفاس الذي يتمتّع بسمعة محترمة كباحث متخصّص في مجال الاستراتيجية السياسية تحوّل إلى (شخص غير مرغوب فيه) بسبب انتقاده البارع للويلات التي يتسبّب فيها اللوبي الإسرائيلي الفرنسي، خاصّة بعد نشره كتابين أساسيين حول هذا الموضوع، الأول عام 2003 تحت عنوان (هل من المسموح انتقاد إسرائيل؟) وهو كتاب عانى بونيفاس كثيرا قبل التمكّن من نشره بعد أن رفضته سبع دور نشر فرنسية، ويتطرّق فيه إلى سطوة اللوبي الإسرائيلي وشبكته الأخطبوطية المكوّنة من يهود وغير يهود والمتغلغلة في الأحزاب السياسية يمينا ويسارا وفي دور النشر والمؤسسات ووسائل الإعلام، أمّا الكتاب الثاني فأصدره عام 2011 بعنوان (المثقّفون المزيِّفون) في دار نشر صغيرة بعد أن رفضته 14 دار نشر. كتاب لاقى رواجا كبيرا في المكتبات وخصّصه بونيفاس لمجموعة من المثقّفين الفرنسيين النافذين الذين نذروا أقلامهم لخدمة الآلة الدعائية الإسرائيلية ومهاجمة الإسلام عبر اختلاق الأكاذيب وعلى رأسهم برنار هنري ليفي وألكسندر أدلير وكارولين فوريست. رلا يتردّد بونيفاس كثيرا في نقده للتواطؤ الفرنسي تجاه الحكومات الإسرائيلية، ويقول بوضوح: (إن من واجب فرنسا أن تدين الاحتلال الإسرائيلي ليس لأن حجم الجاليات العربية في فرنسا يفوق بكثير حجم الجالية اليهودية، بل لأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية خرق للقانون وللشرعية الدولية ويتنافى مع المبادئ الإنسانية وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها). كما نبّه بونيفاس إلى خطورة التبعية الإسرائيلية: (إن الارهاب الثقافي الذي يَعتبر كل منتقد للسياسة الإسرائيلية معاديا للسامية ويبدو للبعض مربحا على الأمد القصير، إلاّ أن نتائجه ستكون كارثية على المدى المتوسط). ما يقصده بونيفاس بالنتائج الكارثية هو أن التواطؤ مع إسرائيل ليس في مصلحة اليهود الفرنسيين أنفسهم وسيؤدّي حتما إلى تنامي الشعور بالغضب نحو الجالية اليهودية وسيعزلها عن محيطها الاجتماعي. وينتقد بونيفاس التفاني الكبير للسلطات في محاربة (معاداة السامية) والتهويل الإعلامي الذي تشهده فرنسا كلّما تعلّق الأمر بالاعتداء على اليهود، في حين أن العنصرية ضد العرب والمسلمين والسود تحوّلت إلى ظاهرة عادية حتى على لسان السياسيين والمشاهير بدون رادع، وهو الأمر الذي يزيد من شعور العرب والمسلمين بالغبن والإحباط من هذه الازدواجية الصارخة. جرائم العدوان المتواصل على غزّة والنقاش الصاخب الذي تثيره في فرنسا المظاهرات المندّدة بإسرائيل أتاحت لباسكال بونيفاس كي يعبّر عن آرائه في بعض وسائل الإعلام الفرنسية، واستطاع هذه الأيّام دقّ ناقوس الخطر والدعوة إلى موقف فرنسي متوازن بدل الدفاع المتواطئ عن إسرائيل، معتبرا أن الطبقة السياسية بيسارها ويمينها معزولة عن محيطها ولا تعكس التضامن الشعبي الواسع مع الشعب الفلسطيني في مواجهة ما يتعرّض له من جرائم تقارب الإبادة. كما سخر بونيفاس من تحذيرات فرانسوا هولاند من مغبّة استيراد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى فرنسا، معتبرا أن هذا الصراع حاضر بقوة في فرنسا منذ عقود طويلة من طرف اللوبي الإسرائيلي، وأن الذي استورده هم أولئك الذين يصرّون على الدفاع عن الغطرسة الإسرائيلية.