قال شيخ الإسلام: باب الغربة قال الله تعالى: فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم. استشهاده بهذه الآية في هذا الباب يدل على رسوخه في العلم والمعرفة وفهم القرآن، فإن الغرباء في العالم هم أهل هذه الصفة المذكورة في الآية، وهم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن زهير بن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن حنطب ، عن المطلب بن حنطب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: طوبى للغرباء، قالوا: [ص: 185] يا رسول الله، ومن الغرباء ؟ قال: الذين يزيدون إذا نقص الناس. فإن كان هذا الحديث بهذا اللفظ محفوظا لم ينقلب على الراوي لفظه وهو: الذين ينقصون إذا زاد الناس فمعناه: الذين يزيدون خيرا وإيمانا وتقى إذا نقص الناس من ذلك، والله أعلم. وفي حديث الأعمش، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال: النزاع من القبائل. وفي حديث عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده طوبى للغرباء، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال: ناس صالحون قليل في ناس كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم. وقال أحمد: حدثنا الهيثم بن جميل، حدثنا محمد بن مسلم، حدثنا عثمان بن عبد الله، عن سليمان بن هرمز، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: إن أحب شيء إلى الله الغرباء، قيل: ومن الغرباء؟ قال: الفرارون بدينهم، يجتمعون إلى عيسى ابن مريم عليه السلام يوم القيامة. وفي حديث آخر: بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها الناس. وقال نافع، عن مالك: دخل عمر بن الخطاب المسجد، فوجد معاذ بن جبل جالسا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فقال له عمر: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن ؟ هلك أخوك ؟ قال: لا، ولكن حديثا حدثنيه حبيبي صلى الله عليه وسلم وأنا في هذا المسجد، فقال: ما هو ؟ قال: إن الله يحب الأخفياء الأحفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم [ص: 186] يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة. فهؤلاء هم الغرباء الممدوحون المغبوطون، ولقلتهم في الناس جدا؛ سموا غرباء، فإن أكثر الناس على غير هذه الصفات، فأهل الإسلام في الناس غرباء، والمؤمنون في أهل الإسلام غرباء، وأهل العلم في المؤمنين غرباء. وأهل السنة الذين يميزونها من الأهواء والبدع فهم غرباء، والداعون إليها الصابرون على أذى المخالفين هم أشد هؤلاء غربة، ولكن هؤلاء هم أهل الله حقا، فلا غربة عليهم، وإنما غربتهم بين الأكثرين، الذين قال الله عز وجل فيهم: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، فأولئك هم الغرباء من الله ورسوله ودينه، وغربتهم هي الغربة الموحشة، وإن كانوا هم المعروفون المشار إليهم، كما قيل: فليس غريبا من تناءت دياره ولكن من تنأين عنه غريب ولما خرج موسى عليه السلام هاربا من قوم فرعون انتهى إلى مدين على الحال التي ذكر الله، وهو وحيد غريب خائف جائع، فقال: يا رب وحيد مريض غريب، فقيل له: يا موسى الوحيد: من ليس له مثلي أنيس، والمريض: من ليس له مثلي طبيب، والغريب: من ليس بيني وبينه معاملة.