بقلم: محمد خالد الأزعر / في السجال والتناظر المحتدم، على نطاق عالمي تقريباً، حول قضية الإرهاب الموصول بالتطرف الديني، يلتزم الصهاينة الإسرائيليون موقفاً بالغ التفرد والغرابة، فبدلاً من الانغماس في أجواء الدعوات الرامية إلى محاربة المتطرفين من كل ملة ونحلة، نراهم منشغلين بمناداة اليهود إلى الانكماش على أنفسهم والانسحاب من مجتمعاتهم الأم والهروب منها إلى إسرائيل. ويتزعم هذا الموقف الشارد عن الإجماع، المغرد خارج السرب، بنيامين نتانياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، ومحازبوه داخل إسرائيل وخارجها. لا يوجد كيان يزعم الانتماء إلى المثل الديمقراطية الراقية والغيرة على منظومة حقوق الإنسان، وفي طليعتها الحق في الحياة والحق في المساواة، يمكنه أن يسعد بوقوع اعتداءات متطرفة ضد أتباع ديانة أو طائفة بعينها، كما تفعل الدوائر الصهيونية وكيانها السياسي. فالاعتداءات المتناثرة بحق اليهود، تبدو بالنسبة إليهم كما لو كانت أخباراً سارة، إذ ما إن تحمل الميديا مثل هذه الأخبار، حتى ينفخ نتانياهو وأتباعه في أوارها، ويصبوا عليها مزيداً من الزيت والتوابل والمشهيات، كالحديث الممجوج عن عودة اللاسامية، ثم يختتموا موشحاتهم بدعوة اليهود إلى الإفلات بجلودهم نحو إسرائيل.. وهذا هو بيت القصيد. ألاعيب الصهاينة أخيراً، وفى حمأة الانشغال بأحداث العنف في فرنسا، أظهرت الحكومات الأوروبية شيئاً كثيراً من التسامح مع هذا السيناريو الصهيوني الإسرائيلي المشترك الذي يؤسس للفرقة داخل مجتمعاتها، ويشكك في قدراتها على ضمان أمن مواطنيها من اليهود. غير أن هذه الحكومات اتجهت لاحقاً إلى تفنيد الموقف الصهيوني، لافتة نظر أصحابه، مع ذكر نتانياهو باسمه وصفته تحديداً، إلى ضرورة إعادة النظر في خطابهم. وفي غضون هذه الالتفاتة، أو الصحوة إن أراد البعض، أظهر الأوروبيون وعياً ببعض خفايا التركيز على مسألة الهجرة اليهودية، وكيف أنها تستخدم بشكل انتهازي في غمرة الحملة الانتخابية الجارية في إسرائيل! لقد أفصح رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس عن هذه الناحية بلا مواربة، حين علّق على نداء نتانياهو إلى يهود فرنسا بالهجرة، قائلاً إنه (لا يجوز أن تسمح الانتخابات الإسرائيلية بالتفوه بأي تصريحات مماثلة..). هنا يشير المسؤول الفرنسي إلى أن الحماس الإسرائيلي الفائض لمصير الأوروبيين اليهود، ليس بريئاً من شبهة دغدغة العواطف لتحقيق مآرب شخصية وتعظيم الفرص السياسية، وإضافة إلى باريس، ردد مسؤولون كبار في عواصم أوروبية أخرى، مثل برلين وكوبنهاغن ولندن، المعاني ذاتها، بما يوحي بالرفض الأوروبي الإقليمي الجماعي لاستغلال حوادث العنف على النحو الذي أراده صناع القرار في إسرائيل. ومن جانبها، أبرزت بعض القطاعات الأوروبية اليهودية اعتراضها على المعالجة الصهيونية النفعية، وما تنطوي عليه من إحراجات لليهود، لكونها تثير الشكوك في ولاءاتهم وانتماءاتهم إلى مواطنهم الأم. ومن ذلك أن جيب جوهل الناطق باسم الطائفة اليهودية في الدنمارك ذكر حرفياً (أننا ممتنون جداً لنتانياهو على قلقه، لكننا دنماركيون، ولن يسوقنا الإرهاب إلى المغادرة باتجاه إسرائيل..). تقديرنا أن رسائل الامتعاض الأوروبي تجاه التعاطي الصهيوني مع قضايا اليهود، الحكومية منها والشعبية، هي من الاستحقاقات المطلوبة لمواجهة الخطاب الصهيوني المسموم. ولهذه الرسالة سوابق تاريخية، فقبل زهاء مئة عام، استنكف عقلاء أوروبيون من اليهود وغير اليهود عن الاستجابة للفكرة الصهيونية، لأنها (تحمل في طياتها نذر الشؤم، ولن تنفذ إلا بالعنف..). وذهب هؤلاء إلى أنه من الأوفق لليهود أن ينخرطوا في النضال الديمقراطي في مواطنهم، بدلاً من التذيل للقوى الاستعمارية التي تستهدف التخلص منهم واستخدامهم مخلب قط لمصالحها في الشرق. على أن الأكثر جدوى من هذه الرسائل هو الانتقال إلى الرفض الإيجابي لنداء الهجرة الخبيث، وذلك بالاستنكار العلني للتدخل الإسرائيلي في الشؤون الداخلية للدول الأوروبية، وتوجيه الاتهام إلى نتانياهو ورهطه بتحريض مواطنين أوروبيين على التمرد على دولهم والتخلي عنها في ساعات العسرة، والطعن في قدرة هذه الدول على حماية مواطنيها، والترويج للتمييز بين هؤلاء المواطنين على أساس ديني. وحبذا لو اقترنت مثل هذه الخطوات بفرض عقوبات ملموسة على إسرائيل، باعتبارها دولة تحتل أراضي دولة أخرى هي فلسطين التي راح الأوروبيون يعترفون بأحقيتها في التحرر والاستقلال، ولمثل هذه الخطوات فليعمل العاملون من العرب والفلسطينيين.