افتتح معهد فرنسا (كوليج دو فرنسا) أعمال الكرسي الجامعي الذي قرر العام الماضي تكريسه لتدريس "تاريخ القرآن: النص وتناقله"، وذلك في سياق الاهتمام الخاص الذي يوليه المعهد للدراسات العربية. واعتبر القائمون على المؤسسة التعليمية العريقة أن انطلاق هذه الدروس -الأولى من نوعها في تاريخ المعهد- يعد امتدادًا للاهتمام الخاص الذي أولاه المعهد على مدى قرون للدراسات العربية، منوهين بأن المبادرة تهدف إلى إثراء البحث العلمي حول ظروف ومراحل جمع القرآن الكريم وتدوينه ورسمه وتداوله في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام.وقال مدير المعهد سيرج هاروش أمام حشد من الأساتذة والباحثين: إنه "لا يمكن فهم الإسلام دون إدراك الطريقة التي تشكل بها وكتب نصه المرجعي". وأضاف أن انتخاب جمعية أساتذة المعهد للأكاديمي فرانسوا ديروش لتولي هذا المنصب العلمي يترجم رغبتها في مواصلة ما سماه "تقليدًا تليدًا بشأن الدراسات العربية داخل معهد فرنسا". وأعرب عن أمله بأن يفتح إطلاق هذا الكرسي "فصلًا جديدًا من معرفتنا بالحضارة الإسلامية"، مشيرًا إلى أن مؤسسته تحتضن منذ 2009 درسًا مماثلًا حول التوراة والإنجيل. من جانبه، استعرض الأستاذ فرانسوا ديروش في درسه الافتتاحي، الخطوط العريضة لأبحاثه حول المخطوطات القرآنية، مشيرًا إلى الخطوات التي قام بها الخليفتان الراشدان أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان في جمع القرآن وتدوينه وصولًا إلى تحديد طرق رسم النص القرآني واعتماد قراءاته الحالية أيام الحكم العباسي.وأوضح الأكاديمي الفرنسي في تصريح للجزيرة نت أن دراسة النص القرآني في شكله المكتوب تقتضي إحصاء وتمحيص المخطوطات القرآنية القديمة التي كتبت في الفترة الممتدة من القرن السابع إلى القرن العاشر الميلادي. وأضاف أنه ينوي "مراجعة النص مستعينًا بنتائج البحوث الأخيرة حول تقاليد الكتابة في القرون الأولى للإسلام ومستندا إلى الاكتشافات في هذا المجال".وكان الدكتور ديروش قد تخرج في شعبة الدراسات الشرقية في المدرسة العليا للأساتذة بباريس قبل أن تعهد إليه المكتبة الوطنية الفرنسية في نهاية سبعينيات القرن الماضي بإعداد جرد للمخطوطات القرآنية.وقد شكلت تلك المهمة بداية أعماله بِشأن تاريخ المصاحف والمخطوطات العربية القديمة. وتوصف أبحاثه في مجال تاريخ المؤلفات المكتوبة باللغة العربية بأنها "مرجعية".وقد ألف عدة كتب، منها تعريف بالقرآن نشرته هيئة المطبوعات الجامعية الفرنسية و"قائمة المخطوطات العربية"، و"الكتاب العربي المخطوط"، و"مصاحف الأمويين" و"كتبة ومخطوطات في الشرق الأوسط".ويعد انتخابه من قبل نظرائه لتولي كرسي تاريخ القرآن اعترافًا بمكانته الأكاديمية الرفيعة وتشريفًا يرنو إليه أعضاء النخبة الثقافية المحلية، فمعهد فرنسا لا يشترط في المرشحين لأحد كراسيه ال57 الحصول على أية شهادة جامعية، إذ يعتمد الاختيار على أهمية أعمال الباحثين وأصالتها. ويعتبر "الكوليج دوفرانس"، الذي أنشئ عام 1530، مؤسسة عامة للتعليم العالي وحيدة من نوعها في فرنسا ولا مثيل لها في العالم، إذ يفتح أبوابه أمام الجمهور لحضور دروس مجانية في مختلف مجالات العلوم والآداب والفنون تقدمها كوكبة من أهل الخبرة والاختصاص.ولا يمنح المعهد أي شهادات للدارسين فيه الذين تطلق عليهم تسمية "مستمعين". وتمكن المؤسسة التي استحدثها الملك فرانسوا الأول رواد موقعها الإلكتروني من الاستماع إلى محاضراتها والاستفادة من مختلف أنشطتها الثقافية، انسجامًا مع مبدئها في "وضع المعرفة في متناول الجميع".