بقلم: رياض بن وادن* كثيرا ما ينظر للمقيم بعيدا عن وطنه نظرة ريب وشك وتخوف.. وقد يزيد هذا الشك والريب إلى أن يصلا إلى حد الطعن في وطنيته واتهامه بخيانة الوطن إذا ما مارس هذا المهاجر السياسة أو أدلى بتصريحات أو خط كتابات عن ما يحدث في وطنه الأصلي من فساد وسوء تسيير.. لكن الأمر يصبح غير ذلك إذا كان هذا المهاجر لاعبا موهوبا أو موسيقيا عظيما أو ما شابه ذلك واختار اللعب لوطنه الأصلي أو الغناء فيه.. فيصبح هنا وطنيا من الطراز الرفيع ويُعزز ويُكّرم وتُضرب به الأمثال والأمثلة في كل مكان.. يغنى عليه ويذكر اسمه في المدارس وينال رضى الأئمة في المساجد وتوضع صوره على كل صفحات الإشهار وتؤخذ له فيها صورا مع كل أنواع الأكلات اللذيذة المفضلة عند الكبار والصغار!!؟. وقد سمعت بأذني بعد تدخل أحد الصحفيين من الخارج في حصة طرحت للنقاش موضوعا سياسيا أن اتهمه أحد المشاركين في تلك الحصة بالعمالة وبمحاولة زرع الفتنة وزعزعة استقرار الوطن رغم أن الصحفي كان كلامه معتدلا ولم يذهب في كلامه أكثر من إبداء رأيه في مسألة جد بسيطة يمكن أن يتكلم فيها عامة الناس .. بل وأصبح يصرخ بملء فيه: أدخل إلى الوطن وتكلم..لا تتكلم من الخارج فقط. وإذا كان حقيقة هذا هو التصور السائد عند المسير والحاكم والممارس للسياسة في تلك الدول فإننا يمكن الجزم بأننا بعيدون كل البعد عن إحداث ذلك التقدم المنشود وأن الوطن سيُحرم من الآلاف من أبنائه في بنائه وإعادة تشكيله. دين كبير للجزائر دين كبير في رقبتي..فيها ولدت وعلى أرضها ترعرعت.. بها تسكن كل عائلتي وأصدقائي وكل أحبابي..في مدارسها تعلمت وأصابني ما أصابها من قهر السنين شدائد الأمور..جمعت فيها كل الأوراق التي تحقق حلمي من أجل عيش كريم على أرضها والاستقرار وتكوين أسرة سعيدة مثلما كنت أقرأ في قصص السعادة والسعداء..صديقي يمازحني في بعض الأحيان وهو ينظر لذلك الجمع من الأوراق التي جمعت في حياتي: إن كل هذه الأوراق تؤهلك للدخول إلى الجنة وليس فقط لإيجاد عمل قار في الجزائر..جمعت الشهادات وبطاقة الخدمة العسكرية التي قضيتها سنوات العشرية السوداء - لا أعادها الله - برتبة مرشح في إحدى ثكناتها..وأوراق حسن السلوك وكل الأوراق التي تطلب من أجل الحصول على عمل شريف في تخصصي التقني.. وبقيت متمسكا بالجزائر إلى أن بلغ السيل الزبى ووصل ألم البطالة إلى العظم..آملا في أن ساعة الفرج قريبة وأن الله سيحدث بعد كل ذلك أمرا..رغم ذلك فإن فكرة هجرة الوطن لم تراودني ولو لحظة.. فأرسلت طلبات العمل إلى كل الولايات، غربا وشرقا ووسطا..بل وأرسلت حتى إلى أقصى الجنوب وكنت على أتم الاستعداد أن أذهب من أجل العمل إلى أبعد نقطة من وطني الجزائر حتى أفرح أمي وأشتري لها المسكن الفسيح الذي كانت تتكلم عليه كل يوم منذ أن بدأت أعي كنه وسر هذه الحياة. وقدر الله وما شاء فعل.. ولم يأت ذلك العمل الذي كنت أتمنى..ولم يتحقق حلمي الذي كنت أرجو من الله أن يتحقق..أن أُكَونَ أسرة وأعيش حياة هنيئة بين أهلي وأصدقائي وأحبابي..واختار الله لي طريقا آخر حيث وجدت نفسي أحمل حقيبتي على ظهري وعيناي تسبح في بحر من الدموع الحارة وغصة تقبض بشدة على صدري وأنا أمتطي باخرة طارق بن زياد على ما أذكر.. قاطعة بنا ذلك البحر إلى عالم كنت أسمع عنه أنه يسمى بعالم السعداء والأنوار والحياة الجميلة..لكني أقسمت بالله وبكل كلمة تعلمت وبكل حروف روايات طه حسين وإحسان وعمي الطاهر وتوفيق الحكيم كتب الغزالي والبوطي وأركون ومالك وغيرهم التي قرأت بأن لن أبخل على وطني وأبناء وطني بنصح أو جهد يساهمان في تحسين الوضع وانتشال الآلاف من الشباب من البطالة القاتلة. وطني حتى النخاع وقصص أخرى لمئات الآلاف من الجزائريين المقيمين في الخارج كثيرة ومتعددة..فمنهم البسيط ومنهم أدمغة عظيمة تساهم في بناء أوطان أخرى لكن كلهم يشتركون في حلم واحد هو أن يساهموا في بناء الوطن الأم وجعله في مصف الدول المتقدمة والمتطورة..وإذا تكلموا في السياسة أو انتقدوا وضعا ما أو نددوا بالفساد والمفسدين فليس ذلك لأنهم خونة يهاجمون وطنهم أو أنهم عملاء..بل على العكس من ذلك، يجب النظر إليهم بعين الاحترام والتقدير والمساهمة معهم في بناء بنك من الأفكار ومحاولة تحقيقها على أرض الواقع..فالدولة الذكية هي التي تستفيد من أبنائها مهما كان وضعهم أو مكان تواجدهم..ولندرك بأن الجزائري الذي حكمت عليه أفعال الفاشلين من السياسيين للعيش بعيدا عن وطنه وأهله والاحتراق بنار الغربة لا يقبل أبدا أن تتكرر المسألة مع شباب آخرين ولا يرضى أن تنزلق الجزائر إلى متاهات مظلمة ولهذا فحمدا لله بأنه يوجد في الغربة من يقرأ الجرائد الوطنية ليطمئن على الوطن ويعرف مستجداته قبل تناول وجبة الإفطار وقبل المغادرة إلى العمل..كما يوجد من يكتب ويجتهد فقط من أجل نشر الوعي وتقديم النصح وتحسين الأوضاع لشعوره بأن للجزائر دين عظيم في رقبته وأنه لا يريد العيش فقط لنفسه بل لوطنه ولأمته وللعهد الذي مات عليه من ضحوا يوما لتحيا الجزائر وشعبها معززين مكرمين..لتفهموا إذن بأنه مهما البعد والغربة فنحن جزائريون حتى النخاع..أحب من أحب وكره من كره.