بقلم: يوسف القعيد* عندما يُذْكَرْ الشعر فى اليمن لا بد أن يقترن بعبد العزيز المقالح. مثل لوركا والشعر الإسباني، وأراجون والشعر الفرنسي، وشكسبير والمسرح الإنجليزي. قضيت معه أسبوعاً عندما زرت اليمن منذ سنوات. وأدركت السر فى أن هذا الرجل لا يحب السفر مهما كانت الإغراءات. وقد جرت محاولات كثيرة معه للمجيء للقاهرة التى أحبها بلا حدود. ومع هذا كان يعتذر فى اللحظة الأخيرة. لأن الرجل أصبح جزءاً من اليمن. وأصبحت اليمن حبة قلبه ونبض روحه. منذ أن بدأت مأساة اليمن الأخيرة وأنا أبحث عنه. ما إن أشاهد قصيدة أو مقالا له فى جريدة عربية حتى أقرأها بصوت عالٍ مرة. وبصوت أعلى مرة أخرى. الأسبوع الماضي كنت أمارس هوايتي فى التسكع بين مكتبات الكتب القديمة في وسط القاهرة وعلى سور السيدة زينب الشهير. ترددت قبل الذهاب. قلت لنفسي لم يبق فى العمر بقية لقراءات جديدة. يكفي أن يستكمل الإنسان المشروعات التي بدأها قراءة وكتابة. وقد ينقضي ما تبقى فى العمر قبل أن ينتهي الإنسان من هذه المهمة. قادتني قدماي لمكتبة من مكتبات سور السيدة زينب للكتب القديمة والمستعملة. فوجئت بديوانٍ من شعر عبد العزيز المقالح، عنوانه: رسالة إلى سيف ابن ذي يزن. أعترف أنني لم أسمع عنه من قبل. وكان من الصعب الوصول إلى مجلد دواوينه الشعرية الكامل. ربما اشتملت على هذا الديوان والذاكرة أصبحت خوَّانة. عندما أخذت الديوان وذهبت إلى بيتي نظرت أول ما نظرت لسنة صدوره. والمقدمة التي كتبها عبد العزيز المقالح تحمل تاريخ 19 سبتمبر سنة 1972، أي أن الديوان صادر منذ 43 سنة. وبعد سبع سنوات من الآن سيكمل عمره نصف قرن. نظرت للديوان على أنه شعر عن الماضي. الماضي البعيد والقديم. مع أن الشعر الحقيقي لا يمكن أن يصنف على هذا المعنى ولا على هذا الأساس. أعترف أنني عندما بدأت قراءة الديوان وأنا أقرأ الشعر بصوت عالٍ خيل إلىَّ أن الديوان ربما كُتِب اليوم وليس الأمس. وربما كُتِبَ الآن. تعليقاً على ما يجري للشعب اليمني الذي قالت وكالات الأنباء الغربية _ للأسف الشديد _ إنه أصبح مهدداً بمجاعة تماثل المجاعات الكبرى فى التاريخ الإنساني. الفارق الوحيد أن المجاعات السابقة كانت تتم بسبب تقلبات الطبيعة وأحوال الجو. أما مجاعة أيامنا اليمنية. فقد صنعناها بأنفسنا. وتلك قيمة الفن العظيم. أن يخترق السنوات. وأن يعبر القرون. وأن يبدو مهما تقدم به العمر طازجاً كأنه خارج لتوه من فم قائله. أو كأنه مكتوب على أوراق زماننا الملوثة بالهزائم والخيانات والخيبات منذ لحظات. لدرجة أن حبره لم يجف بعد. حاول أن تنسى أن هذا الديوان صدر سنة 1972. لأنك عندما تقرأ معي إحدى قصائده ستقول إنها مكتوبة عن هذه اللحظة التي نعيشها. اخترت قصيدة سيف بن ذي يزن .. ألا تتكلم..؟ ألا تتألم..؟ على شفتيك، بعينيك عاصفة تتحطم وبين يديك وضعت جراح اليمن وفوق الرمال نثرت اغترابي وما أبقت السنوات العجاف وأبقت رياح الزمن ولم تبق شيئاً سوى صرخة تتكسر وشعر كما الدمع من عين ثاكلة يتحدر وفي غربتي يتفجر وكل مساء إذا ما غفى الرمل، نامت عيون القبور أتيتك أشكو إليك الثبور أبثك حزني، وأنزع عن كاهلي مثقلات الصخور فاحلم أنك أدركت سري عطفت على مشتكاي وألمح نهراً من الدمع تقذفه مقلتاك فتغرق في دمعها مقلتاي وتمضي تحدثني عن أساك وأمضي أحدث فى لوعة عن أساي تهشم أنفك يوماً ووجهي تهشم، لا أنف لي منذ تاهت خطاي وأبكي إذا ما ذكرت هواك وتبكي إذا ما ذكرت هواي وتحملنا رحلة الدمع عبر السنين ونقرأ في الرمل في الصخر أشجاننا، الذكريات القديمة كلانا غريب الخطى وكلانا حزين تفرق أتباعك المخلصون انطوى تحت ليل الرمال الرجال وأتباعي ابتلعت شوقهم فى الظلام الرمال أتذكر حين اختفى النهر؟ حين اختفت في الشطوط الشجر تقدمت في موكب الشمس أطلقته من سجون القدر فعاد وعاد النخيل، وعاد الثمر. وما زلت أذكر يوم أتيت شجاعاً