بقلم: الدكتور كامل صالح أبو جابر لا يمكن لأحد أن يقدر الخسائر البشرية والمادية التي تكبدها العرب جراء الصراع الحضاري المستمر مع العالم الغربي وحضارته الفتية الديناميكية الغازية وعلى رأسها إسرائيل. ولا يعلم أحد بالفعل ما إذا كان من الممكن إنهاء هذا الصراع. وربما كنت من القلائل الذين رحبوا بالمصالحة المسيحية-اليهودية التي نجمت عن مؤتمر الفاتيكان الثاني العام 1962 (وتبرئة) اليهود من تبعات صلب السيد المسيح ظنا مني أن مثل هذه المصالحة بين الديانتين المتناقضتين أصلا قد تقود إلى مصالحة شاملة بين الأديان الإبراهيمية جميعها: اليهودية والمسيحية والإسلام. وهنا لا بد من إبداء بعض الملاحظات. أولاها أن الإسلام أعلن منذ بداية رسالته عن اعترافه بالديانتين الأخريين وأن النبي محمد ما جاء إلا كخاتم للنبوة. كما فرض الإسلام الاعتراف بأهل الكتاب كونهم أهل ذمة وأن إيمان المسلم لا يستقيم فعلا إلا إذا اعترف إيمانا بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام. والحضارة الغربية التي كانت تعرف سابقا باسم الحضارة الإغريقية الرومانية وبعد ذلك باسم الحضارة المسيحية الرومانية أصبح اسمها اليوم الحضارة اليهودية المسيحية. ورغم أن اليهود الذين لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة في بلاد الغرب فقد جاء اسمهم قبل المسيحيين. وقد اعتقدت لفترة أنه لا بد من المصالحة مع الديانة الإبراهيمية الأخرى وهي الإسلام بحيث تعرف حضارة اليوم باسم الحضارة اليهودية-المسيحية-الإسلامية. لكن حدث عكس ذلك. إذ منذ العام 1962 والصهيونية العالمية والطيف السياسي الإسرائيلي يزحفان بثبات نحو اليمين المتطرف وبالذات منذ استلام حزب الليكود في العام 1977 الحكم في إسرائيل. وقد صاحب هذا الأمر زحف مماثل نحو اليمين المتصهين داخل مجالات السياسات الغربية نتيجة لصعود نفوذ الفئات المتصهينة للمحافظين الجدد في دول الغرب كافة ولاسيما في الولاياتالمتحدة الأميركية. *** ليس الغرض من البحث في جذور الصراع الحضاري الغربي العربي صب المزيد من الزيت على النار وإنما التعرف على واقع هذا الصراع وآثاره على العرب تاريخيا وفي العصر الحديث وما لهذا الأمر من نتائج على مستقبلهم كذلك. فلا يدري أحد أبعاد حروب الفرنجة المدعوة (الحروب الصليبية) على العالم العربي ولا الكم الهائل من الطاقات الفكرية والبشرية والمادية التي استهلكتها. لكن من الواضح أنها قادت إلى إضعاف لا بل إنهاك المجتمع العربي ما مهد لما أصبح يعرف بعصر الانحطاط الذي استمر منذ نهاية تلك الحروب وحتى اليوم. وإذ تتالت الأنظمة بمسمياتها المختلفة في العالم العربي إلا أنها بمجملها كانت سلطوية متقوقعة على ذاتها تركز على الجانب الأمني الآني كقيمة لا تعلوها أي قيمة أخرى. ومع مرور الزمن فقد العرب حتى طاقة حكم أنفسهم بأنفسهم كما فقدوا القدرة على الإبداع والإشعاع الحضاري بأبعاده كافة. فالسلطان يأتي ويذهب ليأتي غيره فيما الأمة تسير أحوالها من سيئ إلى أسوأ. وحقيقة الأمر تقول إن العرب لم يحكموا أنفسهم بأنفسهم لفترة طويلة. هكذا ما إن جاء القرن العشرون حتى فقدوا خبرة ممارسة الحكم وما تتالي تجارب أنظمة مختلفة من الحكم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وتخبط معظمها عقائديا وممارسة إلا دليل على ذلك. والدولة العثمانية التي كان العرب أحد أهم عناصر قوتها ما لبثت هي الأخرى أن فقدت عنفوانها فاسترخت وتتابع عليها السلاطين الذين ما كان لهم من همّ إلا الحفاظ على حياتهم وبعض مظاهر السلطة الجوفاء. إذ ما إن جاءت نهاية القرن الثامن عشر حتى انزلقت إلى دولة شرقية سلطوية تقليدية بما سهل اختراقها من قبل الحضارة الغربية الفتية بأشكال عدة. فالخليفة السلطان رمز الدولة أصبح مجرد ألعوبة لا بيد قيادات جيشه وحسب بل ولمؤامرات الحريم في قصره كذلك. مثل هذه الحال سهلت أمر تدخل القوى الأوروبية في الدولة فأخذت أجزاء منها تُقضم الفينة بعد الأخرى كما تم السماح بنظام (حماية) الدول الأوروبية لبعض الفئات العثمانية داخليا هذه الحماية التي بدأت في عهد أحد أعظم خلفاء الدولة العثمانية سليمان القانوني واستمرت حتى انهيار الإمبراطورية في العام 1918. في الفترة التي كانت الحضارة الغربية تتوقد نشاطا وتتحفز للانطلاق من خلف حدود بلدانها لاستعمار معظم مناطق العالم غير الأوروبية في الأميركتين وأفريقيا وآسيا وأقيانوسيا وداخليا في مجالات الاكتشافات العلمية والفكرية والفلسفية وغيرها كان العالم العربي يغط في سبات العصور الوسطى غير آبه يما يجري في عالم الغرب من نهضة وتنوير. والحقيقة أن الحضارتين عبر المتوسط الغربية والعربية الإسلامية بقيادة عثمانية كانتا على قدم المساواة عسكريا وحضاريا وغير ذلك حتى لحظة ما غير معروفة في القرن السادس عشر أو السابع عشر. فالجيوش العثمانية توقفت على أبواب فيينا لآخر مرة العام 1863. لكن منذ ذلك التاريخ انقلبت الأمور بحيث بقي الشرق على ما هو عليه فيما انطلق الغرب إلى آفاق واسعة على كل الصعد كما هو واضح اليوم. السؤال المحير هو: ما الذي حصل عندهم ليمهد لهذا الانطلاق لكنه لم يحصل عندنا؟ كيف انطلقوا في الغرب ليقهروا الطبيعة ويسخروها لأغراضهم الدنيوية وكذا أن يسيطروا على باقي العالم من خلال تمددهم الاستعماري والذي وإن بدا وكأنه انحسر بعودة بعض جيوشهم ولو لفترة وجيزة إلى قواعدها في بلدان الغرب إلا أن واقع الحال يحكي قصة غير ذلك؟ لعل أبلغ دليل على ذلك قيام نابليون بونابرت صيف العام 1798 باحتلال مصر الأمر الذي فتح الباب لمزيد من الاحتلالات التي لم تنته بعد. ويصف المؤرخ المصري المعاصر عبدالرحمن الجبرتي في كتابه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) وكان يقطن مدينة القاهرة آنذاك كيف أن قادة المماليك عندما سمعوا بنزول حملة نابليون في الإسكندرية لم يكترثوا بها ظنا منهم أنهم سيكونون قادرين على سحق (الفرنجة) تحت سنابك خيولهم لكن عكس ذلك حدث. وأهمية الحملة تكمن في أنها أول اختراق لجيش غربي لدولة عربية منذ الحملات الصليبية إضافة إلى أنها شكلت صدمة نفسية ما تزال أصداؤها تتردد إلى اليوم ولعل من أهم تبعاتها لا فقدان الثقة بالنفس وحسب بل وإدخال فكرة إلى ذهن القائد العربي وإلى حد كبير كذلك ذهن المثقف العربي بضرورة عملية تغيير اجتماعية كبيرة ترتكز إلى الدفاع عن النفس والقدرة العسكرية الضرورية لذلك قبل كل شيء. وهذا أمر ما يزال يشكل السمة العامة لمعظم جهود التنمية العربية منذ ذلك التاريخ. وأهمية نداء نابليون الذي أصدره في السنة التالية لاحتلاله مصر أي في العام 1799 تكمن في أنه كان أول قائد أوروبي يدعو اليهود الذين سماهم في الإعلان (ورثة فلسطين الشرعيين) الأمر الذي مهد الدرب أمام جهود الصهيونية العالمية لا في فرنسا فقط بل وفي جميع أرجاء العالم الغربي فيما بعد. وقد قامت فرنسا باحتلال الجزائر العام 1830 وقامت بريطانيا باحتلال مصر العام 1882 كما احتلت إيطاليا ليبيا في العام 1918. ومع إطلالة القرن العشرين ازدادت الأحوال سوءا إذ تقاسمت بريطانياوفرنسا بلدان العالم العربي وأسستا قواعد فيها وإن عاد بعضها إلى بلدانه بعد الحرب العالمية الثانية إلا أنها كانت دوما على أهبة الاستعداد للعودة إلى المنطقة. وقد عادت بالفعل عدة مرات إليها تحت ذرائع مختلفة.