عندما يستعيد التاريخ ذاكرته المفكر والسياسي الثائر خوالدية صالح 1880 - 1914 بقلم : فوزي حساينية * الملاحظ أنه وخلافا للنداء الأول الذي وجهه خوالدية من تونس لم يدعُ في مقالاته بالقاهرة إلى الثورة على الاستعمار وإنما قام بلفت النظر إلى ضرورة إدراك الأوضاع المأساوية التي يتخبط فيها المسلمون! ما سر هذا التغيير؟ الراجح أن خوالدية صالح وبعد مسيرة معتبرة وتجربة ممتدة أدرك أن السخط على الاستعمار والدعوة إلى الثورة عليه لا يكفيان وإنما لابد من التريث واللجوءِ إلى حكمة التنظيم وعامل الزمن والتعويل على مزيد من التحضير والتحفيز لأن الجماهير كقاعدة عامة حتى وإن كانت مداسة تحت أقدام الغزاة المستدمرين فهذا لا يعني أن لديها استعدادا طبيعيا للثورة والتغيير وإنما لابد مما ليس منه بد في مثل هذه الحالات من إعداد مادي ومعنوي وانتظار الفرصة التاريخية المواتية وفضلا عن ذلك ربما كانت رغبة خوالدية صالح في مراعاة وضعيته في القاهرة ومحاولة تجنب الاحتكاك بالسلطات الإنجليزية والملكية هناك قد زاد في قناعته بحتمية تغيير لهجة خطابه وتركيزه على ضروة بث الوعي وتعميق السخط على الاستدمار قبل الدعوة للثورة والدليل أن الخالدي وبمجرد مغادرته مصر في اتجاه المغرب الأقصى عاد إلى لهجته الأولى القوية ضد الاستدمار والجهر بضرورة الثورة في وجهه. من القاهرة إلى المغرب وهكذا نقل نشاطه السياسي من القاهرة إلى المغرب الأقصى وتحديدا إلى مدينة طنجة وذلك مع بداية صيف سنة 1906 أين سعى إلى تأسيس جريدة لمحاربة النفوذ الفرنسي غير أنه وإن كان مسعاه هذا لم يكلل بالنجاح فإنه قد كشف عن وعيه بأن المعركة ضد الاستعمار يجب خوضها في كل مكان وبكل وسيلة ممكنة فأقام علاقات عديدة مع شخصيات مغاربية وراح يعقد تجمعات مع الوطنيين المغاربة يُحرضهم خلالها على الثورة ضد الاستدمار الفرنسي كما كانت له اتصالات مكثفة مع صحافي إسباني يدير صحيفة أفريكا اسبانيول الذي اعتبر هو الآخر من المعادين للاستدمار الفرنسي وقد تزامن وجود خوالدية صالح في طنجة مع زيارة الإمبراطور الألماني غليوم الثاني للمغرب الأقصى مرفوقا بالمستشرق الألماني المعروف فون أوبنهايم الذي كان خوالدية قد تعرف إليه أثناء انعقاد ملتقى المستشرقين بالجزائر سنة 1904. وقد التقى الرجلان للمرة الثانية هذه تحت المراقبة الدقيقة لأعوان المفوضية الفرنسية بطنجة ويعتبر هذا اللقاء القطرة التي أفاضت الكأس إذ عدّتهُ السلطات الفرنسية دليلا واضحا على استمرارية النشاطات المعادية لفرنسا التي ما انفك صالح خوالدية يضطلع بها في المشرق والمغرب ونظرت إليه بصفة خاصة على أنه الرجل الذي يُعرقل مشروعها الاستدماري في المغرب الأقصى الذي كان محل تنافس استدماري شرش بين كل من فرنسا وإسبانيا وألمانيا وهكذا بادرت السلطات الفرنسية بإلقاء القبض عليه يوم 06 أوت 1906 واقتادته مكبلاً في باخرة متجهة من المغرب إلى وهران وقد حاول الفرار لكن محاولته لم تنجح ومن هنا يبدأ اختلاف الروايات وتضاربها في رسم مسيرة الأحداث لكن قبل إيراد خلاصة تلك الروايات نُحبُ أن نقف عند أربع نقاط هامة تتعلق بسيرة وكفاح هذا السياسي والمفكر والمناضل الكبير. أولا: إن أبرز ما تميز به صالح هو شعوره العميق والصائب بهشاشة حال الإسلام والمسلمين وشدته وجرأته التي أظهرها في نقده للاستدمار الأوربي عامة والاستدمار الفرنسي الإنجليزي خاصة والدعوة الحارة للثورة عليه وقلب الأوضاع في وجهه وهو من هذه الناحية ولاشك أشبه ما يكون بالسيد جمال الدين الأفغاني (1838-1897) الذي امتاز هو الآخر بشخصية حركية ونفسية ثائرة لا تهدأ ولا تُهادن عندما يتعلق الأمر بمحاربة جمود المسلمين وسيطرة الغربيين فقد كان خوالدية صالح في كرهه وحقده على الاستدمار الفرنسي والإنجليزي يشبه تماما جمال الدين الأفغاني في مقته وحقده على هاتين الدولتين الاستدماريتين وإن كان تركيز الأفغاني على محاربة ومناوئة الاستدمار الإنجليزي أوضح بحكم معرفته به منذ شبابه الباكر في بلاده أفغانستان أولا ثم في الهند وإيران وسائر الدول الأسيوية وفي مصر والسودان بعد ذلك على عكس ماكان الحال مع خوالدية صالح الذي انصب أكبر تركيزه على محاربة الاستدمار الفرنسي الذي عرفه منذ شبابه الباكر في بلاده الجزائر وفي بلدان المغرب العربي والقارة الإفريقية وحبذا إنجاز دراسة مقارنة بين سيرة وشخصية الرجلين لأن هذا النوع من الدراسة المقارنة يمكنه أن يقدم لنا الكثير من النتائج الهامة لجهة تعميق معرفتنا بأفكار وأعمال هذا الجزائري الثائر الذي لا يزال كما ذكرت في البداية مجهولا بصورة تكاد تكون تامة. ثانيا: بعض الباحثين يعتبرون أن ما قام به خوالدية رغم أهميته وجدارته بالتنويه يندرج ضمن الجهود الفردية قليلة الجدوى التي غالبا لا تأتي بثمارها إلا أنه ومع ضرورة التسليم بأن الجهود الجماعية المنظمة هي الأقدر على المجابهة والتحدي وبث الدماء الجديدة في الجماعات وتحريك الأوضاع نحو الأفضل إلا أن العمل والتحرك الجماعي لا يكون السبيل ممهدا دائما أمامهما فيكون من شأن بعض الأفراد الذين يمتازون بالحيوية والقدرة على الصبر والمواجهة أن يُبادروا إلى الإعلان عن أفكارهم والتنديد بالمظالم والدعوة إلى التغيير والثورة غير آبهين بالموانع ولا حافلين بالعواقب. رجال الجزائر الأبطال وقد سجلَّ تاريخ الكفاح ضد السيطرة الاستدمارية في الجزائر كما في الكثير من الدول أسماء العديد من الشخصيات الفكرية والسياسية التي قامت بمجهود فردي استمد قيمته وفعاليته من قوة شخصياتهم وسلامة توجهاتهم وفهمهم العميق لنفسيات شعوبهم ومتطلبات المراحل التي عاصروها كما سجل التاريخ الوطني والإسلامي - الحديث- أسماء العديد من الذين رفضوا أسلوب الدعوة المباشرة والمواجهة السافرة وآثروا سبيل التربية والإصلاح مثل الشيخ محمد عبده في مصر والإمام عبد الحميد بن باديس في الجزائر والشيخ النخلي في تونس وليس مجديا أن نتساءل هنا أي السبيلين أفضل وأيهما أليق بالاتباع؟ لأن كلا السبيلين كانا مطلوبين لإنقاذ الشعوب المُسْتدَمَرَةِ وإعادتها إلى حالة الوعي بذاتها ووجودها المُصادر وقُصارى ما يمكن قوله إن أسلوب الدعوة المباشرة والمواجهة السافرة يناسب بعض النفوس وأسلوب التربية والإصلاح الهادئ يلائم نفوسا أخرى لكن وكما أثبت تاريخ النضال الجزائري فإن كلاً من الأسلوبين مطلوب ومُكمل للآخر وإن بدا بينهما بعض التعارض أو التصادم ثم إن الجهود الفردية عادة ما تكون مقدمة للأعمال الجماعية فالنشاط السياسي للأمير خالد بعد الحرب العالمية الأولى مهد لنشوء نجم شمال إفريقيا ونشاط العلامة بن باديس وبعض المصلحين والعلماء كان مقدمة لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وكلا الحركتين كان لهما دور وشأن في التحرير النهائي للجزائر. ثالثا: يُعد خوالدية صالح من أبرز الشخصيات المغاربية والإسلامية التي اهتمت بالتاريخ ودعت إلى فهمه وتوظيفه في النضال السياسي والنهوض الحضاري وكان مشغولا بمحاولة الإجابة على سؤال مركزي مؤداه كيف نجعل من التاريخ وهو أساسا يتعلق بدراسة الماضي قوة من أجل المستقبل؟ ولكن ما السِّرُ في هذا الاهتمام بالتاريخ لدى خوالدية صالح؟ يصحُ أن نَردَّ ذلك إلى ثقافته التاريخية الواسعة وإلمامه العميق بماضي الإسلام والمسلمين بما يتضمنه من دول ومنجزات حضارية كبرى ويصح أيضا أن نعزو ذلك إلى منطق الأشياء فكل المصلحين والثائرين في كل الأمم يتخذونَ من التاريخ منطلقا وأساسا متينا لمشاريعهم السياسية والفكرية فمن الماضي المجيد تُستمدُ الطاقة ويُزرعُ الأمل في إمكانية تجاوز الحاضر الأليم ومن أمجاد الماضي يكون الانطلاق نحو أمجاد جديدة في الحاضر والمستقبل كل ذلك صحيح ومقبول لكنه يبقى مع ذلك غير كاف لتفسير هذه الحرارة وهذا الوعي الذي اتسم به خوالدية صالح في دعوته المُلحة لدراسة التاريخ الإسلامي والذي يمكن إضافته أن خوالدية كان على دراية بالفكر الألماني الحديث- الذي أولى أهمية كبرى للتاريخ- وقد اطَّلع على مصادره الكثيرة المترجمة إلى اللغة الفرنسية كما أن علاقته بالمستشرق الألماني فون أوبنهايم قد شكلت إحدى النوافذ التي تعرَّف من خلالها على جوانب من آراء كبار المفكرين الألمان وعلى الكفاح المرير الذي خاضه الألمان من أجل تحرير وطنهم وبناء وحدتهم القومية وهذه العلاقة بالألمان لا تُساهمُ فقط في تفسير اهتمامه بالتاريخ وتأكيده المستمر على الاستفادة منه بل وتجعلنا نفهم لماذا كانت السلطات الفرنسية تُتابع كلَّ علاقاته وتحركاته خاصة وقد تزامن نشاطه مع الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى وهي فترة مليئة بالمساومات والتنافس والتوترات خاصة بين فرنسا القوة الاستعمارية العالمية وألمانيا الإمبراطورية القوية التي كانت تُريدِ الانتصاف من حيف ولا عدالة التاريخ. رابعا: لقد كان الشيخ عمارة بن يعلا - والد خوالدية صالح- الذي توفي في 26 ديسمبر 1893من أكبر المتعاونين مع الاستدمار الفرنسي إذ أنه قضى أربعين سنة من عمره في خدمة فرنسا وساهم في قمع إحدى أبرزِ الانتفاضات الشعبية بمنطقة هُوارة الواقعة شرقي فالمة مما أهلّهُ ليكون حاملا لأرفع الأوسمة الفرنسية وقد كان في وُسْعِ الابن أن يحذو حذو أبيه مع ما يجلبه ذلك له من امتيازات ومنافع ولكن الابن اختار طريقا مضادا تماما لسيرة والده وهو ما يدفعنا حتما إلى مزيد من التعمق والتحليل لفهم هذه الشخصية السياسية الفكرية الرائدة التي أجهضت منطق التوقعات وقدمت نموذجا حيا عن مكرِ التاريخ وأساليبه المعقدة في تحقيق التفاعل بين إرادات الشعوب ومبادرات النخب الوطنية الثائرة. وبعد هذا الاستطراد الضروري أعود إلى ما ذكرته من اختلاف الروايات حول مصيره بعد إلقاء القبض عليه في المغرب ومحاولته الفاشلة للفرار من السفينة فالبعض يذكر أنه وبعد أن حُوكم في مدينة وهران جرى نفيه إلى بلاد الشام في حين تُرجحُ بعض المصادر أن تكون السلطات الفرنسية قد اغتالته غدرا في حادث مدبر لتُسْكِتَ قلمه الجريء وتتخلص منه بصفة نهائية وإلى أن يُرفع ستار الغموض ويُنفض غبار الزمن عن هذا المناضل السياسي المفكر يجدر القول أن بعض الكتاب المختصين في تاريخ الحركة الوطنية قد اعتبروه أحد رواد الحركة الوطنية في بداية القرن العشرين وينسبون إليه دورا بارزا في التعريف بالقضية الجزائرية مشرقا ومغربا وتبقى آراؤه السياسية بنوع خاص بحاجة إلى الدّرس والتمحيص لأنها من العمق والسبق والثراء بمكان فهي لا تزال تحتفظ بأهميتها وآنيتها وتبقى حياته ككل دليلا على الصعوبات والعراقيل التي واجهها بعض المثقفين الجزائريين في سبيل الإعراب عن آرائهم والدفاع عن قضية بلادهم وتكشف عن بدايات الجهد الفكري والسياسي الذي دشنه الجزائريون في مطلع القرن العشرين على الدرب الطويل الشاق للقضاء على الاستدمار البغيض واسترداد الوطن الجزائري السليب. * إطار بمديرية الثقافة لولاية فالمة