بقلم: هيفاء زنكنة* أثار خبر رضوخ أكبر شركة أمن في العالم جي فور أس(G4S) البريطانية لضغوط حملة عالمية تشنها حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) منذ أكثر من أربع سنوات الفرح (وهو عملة نادرة في زمننا هذا) في أوساط المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية وكل من يسعى لتحقيق الحرية والعدالة والعودة للشعب الفلسطيني. إذ قررت الشركة إنهاء عقودها الإسرائيلية خلال 12 _ 24 شهراً والتي تتضمن عملها في سجون الاحتلال الإسرائيلية حيث يتم تعذيب الأسرى الفلسطينيين وسجنهم دون محاكمة وتوفير الخدمات والمعدّات الأمنية لحواجز الاحتلال ومستعمراته ومركز تدريب للشرطة الإسرائيلية. وقد انضمت في الأسابيع الأخيرة منظمة اليونيسيف في الأردن وسلسلة مطاعم كبرى في كولومبيا إلى الجهات التي أنهت عقودها مع G4S بعد حملات المقاطعة التي كشفت تواطؤ الشركة في جرائم نظام الاحتلال والاستعمار- الاستيطاني والأبارتهايد (الفصل العنصري) الإسرائيلي. يأتي النجاح الأخير في أعقاب سلسلة من النجاحات التي دفعت المحتل إلى اعتبار نشاطات المقاطعة خطرا أمنيا يستوجب المجابهة بكافة الأشكال ومنها محاولاته لتشويه سمعة الحركة والضغط من أجل تمرير قوانين تمنع عمل الحركة في أوروبا والولاياتالمتحدة. من الناحية المادية بلغت خسائر G4S منذ عام 2010 عقوداً تقدر بملايين الدولارات في عشرات الدول حول العالم استجابةً لنداء حركة المقاطعة إسرائيل إلا أن هذه الخسارة لم تمتد إلى العراق. إذ قرر مجلس وزراء (العراق الجديد) في 16 فيفري من العام الحالي تمديد عقد الشركة في البلاد الذي وقعته في العام الماضي بقيمة 187 مليون دولار أي ما يعادل مائتي مليار دينار على أمل تجديده ليصبح واحدا من أكبر عقود الشركات الأمنية في البلد في ذات الوقت الذي أعلنت فيه منظمة اليونسيف إلغاء عقدها. وقد تم تمرير خبر التجديد في نهاية بيان طويل صادر عن مكتب المجلس يتناول فيه مرور البلد بأزمة اقتصادية خانقة. فهل أراد مجلس الوزراء العراقي تعويض الشركة التي ارتبطت عالميا بانتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني وأماكن أخرى بالإضافة إلى فسادها وانتهاكاتها في العراق نفسه عن خسارتها في الأردن أم أن دور الشركة الإجرامي في البنية التحتية للمستوطنات والأمن للمحتل العنصري أمر عادي لا يستحق التوقف عنده واتخاذ موقف أخلاقي وإنساني وقانوني منه؟ ما الذي حدث لروح دعم النضال الفلسطيني الذي تربينا عليه كعراقيين مؤمنين بأن القضية الفلسطينية بوصلتنا الأخلاقية ومقياسنا لفهم إنسانيتنا والآخرين؟ جرائم علنية رسميا لا يجد النظام العراقي حرجا في التعامل مع الشركة مهما كانت جرائمها. فحاضرها يتماهى مع حاضره. (معا نبني العراق) هو شعارها الناعم لتوحي بأنها قوة بناء وإعمار بدلا من الشعب. وهي أقوى من الجيش والقوات الأمنية لأنها القادرة على (توفير الحلول الأمنية وتدريب الموظفين الموهوبين لتعزيز مكانتها على المدى الطويل في البلاد). وتفتخر الشركة بإرثها المتغلغل في (القطاعات الحكومية والقطاعات التجارية على حد سواء في فترة ما بعد الحرب). وفي الوقت الذي أعلن فيه النظام أن عمل الشركة يركز بالدرجة الأولى على توفير الأمان للمستثمرين الدوليين ومنهم شركات النفط والغاز فإنها تذكر على موقعها أنها تقدم (خدمات أمنية شاملة في مطار بغداد الدولي) ويمتد عملها كما هو الحال في إسرائيل ليشمل (إدارة التسهيلات للبنية التحتية الأساسية ومن ضمنها المحاكم وإدارة السجون) وأن الشركة مسجلة رسميا لدى وزارة الداخلية العراقية. وكأن سجل وزارة الداخلية الأسود فيما يخص المعتقلات والسجون وممارسة التعذيب حتى الموت بأيد عراقية ليس كافيا لتقوم الحكومة بمنح عقود ضخمة لشركات أمنية لتساهم بشكل مباشر وغير مباشر كما في معتقلات الكيان الصهيوني في منظومة الاعتقال وانتهاك حقوق الإنسان وامتهان كرامته. أي أننا ندفع تكلفة تعذيبنا عقودا مجزية. ولعل الشعار الأصلح للحكومة والشركات الأمنية التي تتعاقد معها أن يكون (معا ننهي العراق). يقابل هذه الصورة الرسمية القاتمة مبادرات مجتمعية تمنحنا فسحة من الأمل قد تتسع مستقبلا لتشمل العراق كله. منذ ثلاثة أعوام مثلا أطلقت (المبادرة الدولية للتضامن مع المجتمع المدني العراقي) الهادفة لخلق صلات للتضامن بين المجتمع الدولي من جهة وبين المجتمع المدني العراقي ومنظماته من جهة أخرى حملة (قاطعوا جي فور اس) ضمن حملة لمناهضة ووقف عمل الشركات الأمنية الخاصة. وتطالب الحملة بوضع (اتفاقية دولية ملزمة للحد من الاعتماد على الشركات الخاصة في توفير الأمن وكذلك لإخضاع ما هو موجود للمحاسبة. خصوصا بعد التجربة المريرة التي مرت بالعراق من جراء الاستعانة بمثل هذه الشركات للأسف ما تزال الشركات الأمنية الخاصة جزءا من واقع العراق الامني السيئ). وبينما يزداد الوعي العام بضرورة محاسبة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة على انتهاكاتها لحقوق الإنسان بسبب الحصانة التي تمتع بها أو الفجوة القانونية في إطار القانون الدولي إلا أن الدول الفاشلة التي لا تأتمن شعوبها والشركات الاحتكارية عابرة البلدان وشركات السمسرة المحلية اللاهثة وراء نسبة من غنائم الفساد لاتزال تجد فيها الأداة الأصلح لحمايتها متعامية عن كون الشركات الأمنية العالمية جزءا من شبكة مرتبطة عضويا بالأوساط الاستعمارية الأكثر تطرفا في الولاياتالمتحدة وبإسرائيل كونها الملاذ الآمن لتلك الأوساط سياسيا وعسكريا. مما يعني تقديم أجهزة المخابرات بأشكال (وطنية) ما دامت تدار من خلف الستار كجزء من أكثر السياسات الإمبريالية خطرا. مما يعكس غباء الحكومات المتعاونة معها ومن بينها العراقية مقابل تصاعد الوعي العام بأن الضمان الوحيد لأي بلد هو الدولة الوطنية مستقلة الإرادة ذات إستراتيجيات بعيدة المدى اقتصاديا وتنمويا وقوانين تعامل الإنسان كقيمة عليا.