إذا كان هناك ما يميز منهج وفكر رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أكثر من غيرهم، ويبدو أوضح ما يكون عندهم، وأولى أن يكون علامة تدل عليهم، وتشير إليهم، فهو ولاشك (الواقعية)، فقد كانوا أكثر إدراكا للواقع الوطني، وأشد ارتباطا به من غيرهم، وهذا الاتصال بالواقع الجزائري والاقتراب منه، هو الذي يسر لهم فهمه، وإدراك حقيقة الأمراض التي تشكو منها أمتهم، والعوامل المتسببة فيها، مما جعلهم يهتدون بكل يسر للعلاج المناسب، والوسائل المساعدة على شفاء أمتهم منها انطلاقا من الآية الكريمة}إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ{(الرعد: 11) وهذا المنهج التغييري الداخلي هو الذي تبناه زعماء الإصلاح أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد العزيز الثعالبي وعبد الحميد بن باديس وغيرهم. ولعل أبرز من دعا إلى هذا النهج الإصلاحي وتجلت فيه هذه الخاصية بوضوح هو الشيخ المبارك الميلي، رحمه الله، فهو الذي اهتدى إلى أن ما جعل الجزائر تنهزم أمام الغازي الفرنسي، ليس هو قوة الجيش الفرنسي، بل ضعف الجزائر ذاتها، فقد أدرك أن هزيمة الجزائر لا ترجع إلى أسباب خارجية بقدر ما تعود إلى أسباب داخلية، وهي المتمثلة في تلك الأوضاع المزرية التي كانت تعاني منها، فهي التي كانت عونا للغازي عليها، ومكنته من احتلالها وبسط سلطانه عليها، ومن أبرز العوامل التي انجرت عليها تلك الأوضاع المزرية: - انحسار العلم. - سيطرة الجمود. ولما أذعنت الجزائر للمحتل الفرنسي عن كره لا عن رضا، انضاف إليها عامل ثالث وهو: - فقدان الشعور بالذات. ونتائج تلك العوامل الثلاث إذا اجتمعت، أضعفت القدرة على المقاومة والتصدي لأي اعتداء خارجي، وتولدت لدى المجتمعات والشعوب "القابلية للاستعمار" على حد تعبير فيلسوف الجزائر المرحوم "مالك بن نبي"، ولذلك ركز الشيخ مبارك الميلي، رحمه الله، جهده على العناية بهذا الجانب الداخلي من حياة الأمة الجزائرية، فألف كتابه (رسالة الشرك ومظاهره)، بهدف إصلاح المعتقد الديني الذي أفسدته عوامل كثيرة كقلة العلم وفشو الجهل، ولإيمانه العميق أن إصلاح الأمم الإسلامية لا يتأتى إلا من قبل العناية بدينها وتصحيح معتقدها، كما بين ذلك وعبر عنه في العدد الثاني من جريدة المنتقد الصادرة سنة 1925 في قوله:" من رام إصلاح امة إسلامية بغير دينها فقدعرض وحدتها للانحلال وجسمها للتلاشي وصار هادما لعرشها بنية تشييده ". وهذا يعني أنه رأى أن وحدة الأمة لا تتحقق إلا عن طريق توحيد العقيدة ذاتها، وأن هذه العقيدة لا تتحقق غايتها في توحيد الأمة، إلا إذا سلمت من الشوائب التي تعكر صفوها ونقاءها، واستقرت في النفوس استقرار القلب في الجسد. فإذا ما اهتز المعتقد بسبب ما خالطه من شوائب وأوضار، انجر عنه عدم الإحساس بالمسؤولية الفردية والاجتماعية، وتطرق الضعف إلى الأمة وحدث الانقسام وتشتت الشمل، كما صرف جهده إلى تحفيز المجتمع للعناية بالعلم، والإقبال عليه، والترغيب فيه، والبذل له، وذلك بغية تحرير المجتمع من الجمود الذي ران على عقله، فبلد مشاعره وصرفه عن الانتباه لما تردى فيه من انحطاط وتخلف، وقعد به عن النهوض بأمره، وإصلاح شأنه، وتغيير حاله من أسوأ حال إلى أحسن حال، فها هو ينبه إلى ذلك في خطاب ألقاه في جمعية حياة الشباب:" أيها الإخوان إذا تأملنا الإسلام الكريم وجدناه يعتني بجزئي الإنسان: الروح والجسد، ولكن عنايته بالروح أشد، فهو لم يدعنا إلى الإكثار من الأكل، كما دعانا إلى الإكثار من الصلاة، ولم يمدح المعدة والخبز، كما مدح العقل والعلم، فهل نحن على نهج الإسلام في ذلك سائرون؟ إن أشد ما يتأسف العاقل عليه، وأعظم ما يحزن الناصح من أجله، هو اهتمامنا بأجسادنا، وإهمالنا أرواحنا، هاهي الأراضي يتهالك الناس على امتلاكها لبذر قوت الجسد، وهاهي الديار يتنافس العباد في اقتنائها لتمتيع الجسد، وهاهي المصانع يتفنن الخلق في نتائجها لمنفعة الجسد، فأي أرض ملكناها لبذر العلم قوت الروح؟ وأي دور اقتنيناها لحفظ العلم قوت الروح؟ وأي مصانع أنشأنها لمنفعة جانب الروح.." والشيخ المرحوم مبارك الميلي ما ألف كتابه (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) إلا ليعيد بعث الشعور بالذات في الأمة الجزائرية، وذلك عن طريق تذكيرها بأمجادها في سالف العصور حتى يثير فيها حميتها، ويبعث فيها نخوتها، ويحرك فيها الرغبة في وصل حاضرها بماضيها، لتتمكن من صنع مستقبلها على نحو يماثل ذلك الماضي الزاهر، أيام كانت تفرض وجودها في العالمين، وهذا ما جعل الإمام ابن باديس، رحمه الله، يكتب له بتاريخ 15/01/1347 رسالة يقول فيها:" وقفت على كتاب تاريخ الجزائر في القديم والحديث، فقلت لو سميته حياة الجزائر لكان بذلك خليقا، فهو أول كتاب صور الجزائر في لغة الضاد صورة تامة سوية بعدما كانت تلك الصورة أشلاء، متفرقة هنا وهناك، ولقد نفخت في تلك الصورة من روح إيمانك الديني والوطني، ما سيبقيها حية على وجه الدهر، تحفظ اسمك تاجا في سماء العلا، وتخطه بيمينها في كتاب الخالدين. أخي مبارك إذا كان من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا، فكيف بمن أحيا أمة كاملة، أحيا ماضيها وحاضرها، وحياتها عند أبنائها، حياة مستقبلها، فليس والله كفاء عملك أن تشكرك الأفراد ولكن كفاءه أن تشكرك الأجيال". وما أظن أن الإمام عبد الحميد بن باديس دبج هذه الرسالة التي تنضح بالإعجاب والتقدير لعمل الشيخ مبارك الميلي الذي جسده هذا الكتاب إلا لأنه –عليه رحمة الله - أدرك أن الشيخ مبارك الميلي قد علم أن تحرير الجزائر لن يغدو ممكنا إلا بتمكين الأمة من استعادة وعيها بذاتها، فذلك الذي يجعلها مهيأة لتحمل مسؤوليتها التاريخية في التمرد على المحتل والثورة عليه، لاسترجاع الحرية المصادرة والسيادة المسلوبة وهاهو الواقع العربي المعاصر يثبت ذلك ويؤكده، فهذا الشباب المصري قد أثبت صدق حدس الشيخ مبارك الميلي في أن الشعور بالذات هو الأساس في الدفاع عن العزة والكرامة، وأنه هو الحافز الأساس أيضا على استرجاعها في حالة فقدها، كما أثبت هذا الشباب نفع الله به العروبة والإسلام، صواب حكم وحكمة الإمام العلامة محمد البشير الإبراهيمي الذي قال بمناسبة انعقاد المؤتمر الإسلامي عام 1936، (لا يصنع مستقبل الأمة إلا الأمة) فهنيئا للشعب المصري بثورته المظفرة ونصره المؤزر، ورحم الله الإمام عبد الحميد بن باديس، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ مبارك الميلي، والشيخ العربي التبسي، و الشيخ الطيب العقبي، والشيخ إبراهيم بيوض وجميع رجالات الجزائر الذين ناضلوا بحق وصدق من أجل عروبة الجزائر وإسلامها، ومن أجل سيادتها واستقلالها وأبقى ذكرهم في الخالدين