بقلم: عبد الحليم قنديل* قضي الأمر ولم يعد ممكنا لأمريكا أن تستعيد نفوذها الكوني الذي كان حتى لو لجأت إلى شراء وقت بدل ضائع في المباراة العالمية الراهنة أو ما يسمى اختصارا عند مجانين كرة القدم بالوقت الضائع فما حسمته الأقدار وتوازنات القوة في المباراة الأصلية لن تغير نتائجه ألعاب الخشونة والفظاظة في الوقت الإضافي فقد مضى زمن الانفراد الأمريكي بشؤون الدنيا وتدحرجت أمريكا إلى غابة الظلال وتحولت إلى مجرد قوة عظمى بين آخرين تنعى أيام مجدها الكوني الغالب ولم تعد ولن تعود تلك القوة العظمى بألف ولام التعريف والحصر. وقد لا يصح لأحد أن ينكر ما تبقى لأمريكا من عناصر قوة امبراطورية لعل أهمها فوائض ما تملكه من قوة سلاح وإن كانت تنزل باطراد عن عرش الاقتصاد العالمي وتتضخم ديونها المقدرة اليوم بأكثر من 26 تريليون دولار أي بما يفوق ناتجها القومي الإجمالي الذي يتعرض نحو خمسه للقضم هذا العام مع مضاعفات جائحة كورونا التي تحولت أمريكا إلى صيدها الأسهل وصار لها وحدها أكثر من ثلث إجمالي ضحايا الفيروس الجامح فيما تستقبل أمريكا مواعيد انتخاباتها الرئاسية الوشيكة في اختيار بائس بين رجلين يقترب كلاهما من عمر الثمانين سنة في إشارة رمزية بليغة على شيخوخة أمريكا وعجزها البادي عن تجديد الدور والمكانة ووسط هلع مثير للشفقة تبديه دوائرها السياسية والأمنية التي تتخوف من تأثير الآخرين على مصير الانتخابات من نوع ما يسميه الأمريكيون بتدخل الصينوروسيا وحتى تدخل كوبا وفنزويلا وإيران وكوريا الشمالية وكأن أمريكا صارت في وضع الضحية والفريسة المفضلة المستضعفة وهي التي كانت تتهم زمن مجدها وسطوتها بأنها تصنع للآخرين نظمهم السياسية والاقتصادية وأحلام ليلهم ونهارهم. وقد لا يكون من فارق جدى ملموس بين أن يفوز جو بايدن أو أن يأخذ دونالد ترامب فترته الرئاسية الثانية فكلاهما تعبير عن البؤس والضعف الذي ألم بأمريكا بؤس داخلي في الانقسامات المجتمعية وضياع البوصلة وتواري الأحلام وضعف دولي ظاهر جرى استطراده وتسريعه بحماقات وفظاظات ترامب الذي لم يترك لأمريكا حليفا موثوقا إلا من نوع إسرائيل وأغواتها من الحكام العرب في حين راحت دول أوروبا الكبرى بعيدا عن واشنطن تبحث لها عن موضع قدم آخر في توازنات الدنيا المتغيرة وعلى نحو ما جرى ويجري في حرب إيران داخل أروقة الأممالمتحدة فقد جربت أمريكا كل صنوف الخشونة والضغوط القصوى وبدا لواشنطن أن ساعة القطاف حانت وأن بوسعها جعل العالم يسير في ركابها للنهاية ضد إيران وظل مايك بومبيو وزير خارجية ترامب الذي يتكلم كراعي بقر ويتصرف بروح المسيحية الصهيونية المتطرفة وقد ظل شهورا يواصل مكوكياته ويدعو إلى مدّ حظر تصدير السلاح لإيران أو منها المقررة نهايته دوليا في أكتوبر المقبل ويشدد حملته ضد طهران التي سماها رأس الإرهاب الدولي وبعد كل هذه التعبئة المستميتة كانت هزيمة واشنطن فادحة كاشفة في تصويت مجلس الأمن الدولي ولم يصوت لقرار واشنطن سوى واشنطن نفسها ومعها دولة صغيرة كرأس دبوس على نصف جزيرة في بحر الكاريبي اسمها جمهورية الدومينكان في حين عارضت وامتنعت 13 دولة من مجموع 15 دولة في مجلس الأمن وبين الممتنعين كانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا ولعبت الصينوروسيا دور رأس الحربة المغروزة في بدن الهيبة الأمريكية المتزايلة ولم يجد بومبيو ولا رئيسه ترامب من تعليق سوى الصراخ الملتاث وتكرار محاولة بدت أكثر بؤسا تدعي أنه لا بد من معاقبة إيران على خرقها للاتفاق النووي الذي خرجت منه أمريكا أصلا قبل سنوات ولا يحق لها بالبداهة استخدام نصوصه لإعادة فرض العقوبات الدولية على إيران وهو ما نبهت له ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وسخرت من الطلب الأمريكي الشاذ قانونا ووجدت نفسها في مواقف الصينوروسيا ذاتها وكأنه موسم التنكيل الدولي بأمريكا فليست القصة في إيران بذاتها إنما في معنى التحولات الدولية الجارية بمناسبة حرب إيران والانقلابات الدرامية في حلبة المصارعة السياسية. وقبل حرب إيران كانت حرب سوريا التي كشفت حقائق عودة الدور الروسي العسكري عالميا وإزاحته لمناطق نفوذ أمريكية في دراما الشرق الأوسط الدموية وهو ما واصلته روسيا بضراوة في مداولات مجلس الأمن مستعينة بصداقة الصين قوة العالم الاقتصادية العظمى بمعايير القوى الشرائية وبتحالف الأقوياء الجدد هزمت روسياوالصينأمريكا وأوروبا معا في ثلاثة تصويتات متوالية في مجلس الأمن جرت الواقعة المثيرة قبل شهور وكان الصدام حول معابر دخول المساعدات الإنسانية الدولية إلى داخل سوريا وتقدمت الأطراف الغربية بمشروع قرار دخول المساعدات عبر معابر متعددة لا يقع أغلبها تحت سيطرة الحكومة السورية المحمية من روسيا ورفضت موسكو واستخدمت ومعها الصين حق الفيتو لمرتين متتابعتين ما اضطر أمريكا والأوروبيون إلى النزول عند رغبة روسيا وقصر دخول المساعدات الدولية على معبر باب الهوى الواقع تحت سيطرة حكومة بشار الأسد كان تصويتا مرهقا استخدمت فيه روسياوالصين خشونة الفيتو وليس كالتصويت الأخير بخصوص إيران الذي لجأت فيه الصينوروسيا إلى أساليب تعبئة ناعمة نسبيا لكن المحصلة ظلت كما هي في حالتي الخشونة والنعومة وظلت الهزيمة الدولية من نصيب واشنطن التي تلجأ باطراد إلى الانسحاب من منظمات الأممالمتحدة وعلى نحو ما فعلت في اليونسكو و مجلس حقوق الإنسان و منظمة الصحة العالمية في حين يتزايد نفوذ الصين في الوكالات النوعية التابعة للأمم المتحدة وتبدي استعدادها لملء فراغ التمويل الأمريكي المنسحب وتكسب أرضا دولية جديدة كل يوم بإنفاق تريليونات الدولارات على مشاريع الحزام و الطريق وكسب نصيب الأسد (35 ) من إجمالي التجارة العالمية والرد بقسوة متحدية في معارك الحرب التجارية التي أشعلتها واشنطن التي خسرت بامتياز في سباق العولمة التجارية والاقتصادية والتكنولوجية وتلجأ إلى إجراءات حمائية متصاعدة تتصور أنها ستنقذها من الطوفان الصيني الذي يزحف مع روسيا إلى عقر دار النفوذ الأمريكي المتقادم في الشرق الأوسط وتزيد كثافة استثماراته حتى في إسرائيل ويتضاعف تسليحه مع التسليح الروسي والفرنسي للجيش المصري أكبر جيوش المنطقة إضافة لصفقة الصين العظمى مع إيران على مدى 25 سنة مقبلة وفي نصوصها المنشورة انتظارا للتصديق عليها تقدم الصينلطهران استثمارات بقيمة 400 مليار دولار وتتولى تطوير البنية التحتية والاتصالات والصناعة وتحصل بأسعار ميسرة على غالب احتياجاتها من موارد البترول والغاز الإيرانية وأولوية مطلقة في توريد السلاح مع روسيا إلى إيران كذا امتيازات عسكرية وتجارية في موانئ إيران كلها. وقد لا يكون صحيحا تماما أن ترامب هو الذي صنع سيرة الإخفاق الأمريكي صحيح أنه يعجل بالتردي مع سوقيته وفظاظته لكنه أي ترامب مجرد عرض لمرض أصل المرض في تضعضع النفوذ الأمريكي دوليا بعد مرور فترة عابرة في تاريخ النظام الدولي تلت سقوط موسكو الشيوعية وتحلل الاتحاد السوفييتي في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين وعلى مدى أقل من عقدين لاحقين بدا أن العالم يعيش زمن القطبية الأحادية الأمريكية كان ذلك أشبه بخداع بصر موقوت فحقائق القوة كانت تواصل تشكلها ونضجها وكانت تأخذ من نصيب أمريكا الأحادي وتنتظر حوادث الإفصاح عن نشوء وضع دولي متعدد الأقطاب العسكرية والاقتصادية وعلى نحو ما بدا ويبدو في حرب سوريا و حرب إيران وحروب التجارة والتكنولوجيا والأممالمتحدة وهو ما بدا أن القوة الأمريكية تستشعره غريزيا باستجابة عصر باراك أوباما التي مالت إلى التسليم بتواضع أحوال أمريكا حتى في طقس انتخابه كأول ملون يصل إلى البيت الأبيض وفي قراراته كرئيس بالانسحاب المتدرج من حروب الشرق الأوسط والانتقال للتركيز على جوار الصين والمحيط الهادئ وعلاج أعطاب الاقتصاد المأزوم في الداخل وهو ما واصله ترامب بطريقته ومن دون نجاح كبير فقد عاد الاقتصاد إلى عطب مضاعف مع جائحة كورونا وتزايد تأثير الصينوروسيا في السياسة الدولية مع ثبات عقم سياسة الإفراط في العقوبات ضد الآخرين واتساع رقعة التمرد على النفوذ الأمريكي ولو حدث أن فاز بايدن بالرئاسة المقبلة فلن تكون سياسته سوى نسخة باهتة من اختيارات أوباما ومن دون مقدرة أكيدة على تبديل جوهري للمصائر فما مضى لا يعود وقوة أمريكا المنفردة كونيا صارت في ذمة التاريخ المنقضي.