تزايدت الأدلّة والبراهين التي تؤكّد وجود اتّفاق مسبق بين أنصار المجلس الوطني اللّيبي الانتقالي وقادة دول حلف (النّاتو) على تصفية العقيد معمّر القذافي وأبنائه والمقرّبين منه جسديا وعدم اعتقالهم أحياء لتجنّب تقديمهم لمحاكمات عادلة يمكن أن تؤدّي إلى كشف أسرار وملفات لا يريد هؤلاء أن تظهر إلى العلن، خاصّة تلك المتعلّقة بتعاون أجهزة الأمن الغربية مع النّظام السابق، في قمع وتعذيب واغتيال شخصيات ليبية معارضة· الصورة لا تكذب، خاصّة إذا كانت تسجيلا حيّا، وشاهدنا أشرطة بثّتها قنواتٌ فضائية تظهر الزّعيم اللّيبي السابق وهو يسير على قدميه ويستعطف معتقليه الرّحمة به وعدم قتله مثلما شاهدنا صورا حيّة لابنه المعتصم وهو ملقى على الأرض يحرّك يديه ولا نقطة دم واحدة على جسمه، ثمّ في صور أخرى وقد تحوّل إلى جثّة هامدة وثقب كبير بين صدره وعنقه قال الطبيب الشرعي الذي فحص جثمانه إنه نتيجة عملية قتل بسلاح ثقيل، وأكّد أنه جرى إعدامه بعد إعدام والده برصاصة في الرّأس، والشيء نفسه حصل للّواء أبي بكر يونس جابر وزير الدفاع· السيّدة صفية فركاش، أرملة المرحوم، تقدّمت بطلب رسمي إلى الأمم المتّحدة للتحقيق في ظروف إعدامه، وأعلن مكتب الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان عن عزمه إجراء تحقيق في مقتل الزّعيم اللّيبي بعد اعتقاله حيّا· واللاّفت أن جميع قادة المجتمع الغربي الحرّ الذين لم يتوقّفوا عن إلقاء محاضرات علينا حول كيفية احترام حقوق الإنسان وتطبيق حكم القانون لم يعترضوا على عملية الإعدام هذه بل باركوها، وعلينا أن نتخيّل كيف سيكون موقف هؤلاء لو أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قد أعدمت الجندي الإسرائيلي جلعاد شليط ومثّلت بجثّته وسحبته في شوارع قطاع غزّة· نعم معمّر القذافي كان مجرما دمويا، نكّل بأفراد شعبه وحرمهم من أبسط سبل العيش الكريم، وهم أناس أحرار، شرفاء، سِمتهم التواضع والكرم وعزّة النّفس ويرضون بأقلّ القليل، لكن هذا لا يعني أن يُعامَل بالطريقة التي كان يعامِل بها خصومه ومعارضيه الذين يطالبون بالقضاء العادل واحترام الحدّ الأدنى من مبادئ حقوق الإنسان وقيمها· شخصيا، أصبت بصدمة وأنا أرى بعض العناصر التابعة للمجلس الوطني الانتقالي تنهال ضربا وبالأحذية على رأس رجل جريح وتجرّه على الأرض، وتضاعفت هذه الصدمة عندما جرى عرض جثمانه وولده المعتصم في حاوية قذرة في مصراتة أمام المارّة وكأن لا حرمة للموتى· يجادل البعض من المسؤولين في ليبيا (الجديدة) أن قتل القذافي يعفي من إجراءات قضائية معقّدة قد تطول وتؤثّر سلبا على العملية الانتقالية وبناء مؤسسات الدولة، لكن هذا الجدل وأصحابه ينسون أنهم يريدون أن تكون هذه المؤسسات ديمقراطية أساسها العدالة وحقوق الإنسان والحكم الرّشيد، ولا نعتقد أن عمليات الإعدام للزّعيم اللّيبي الرّاحل ورجاله تستقيم مع هذه التطلّعات· ' ' ' شككنا منذ البداية في نوايا حلف (النّاتو) وتدخّله في ليبيا، ليس لأننا ضد حماية أبناء الشعب اللّيبي من مجازر القذافي ورجاله، فهذه مهمّة سامية نؤيّدها بقوّة، وإنما لأننا ندرك أن هذا التدخّل يأتي لأسباب أخرى غير إنسانية واستعمارية في الأساس· أليس غريبا أن تستمرّ عمليات حلف (النّاتو) وغاراته إلى ما بعد سقوط طرابلس العاصمة وانهيار نظام العقيد القذافي ولجوء حفنة من إنصاره إلى مدينتي سرت وبني وليد، وذلك تحت ذريعة حماية المدنيين الليبيين؟ أي مدنيين يتحدّث عنهم هؤلاء؟ فهل الذين كانت تقصفهم طائرات حلف (النّاتو) في المدينتين هم من أنصار المجلس الوطني الانتقالي أم المعارضين لنظام الطاغية؟ لم يكن من قبيل الصدفة أن يعلن حلف (النّاتو) وقادتُه انتهاء مهمّتهم في ليبيا بعد أقلّ من 24 ساعة من مقتل الزّعيم اللّيبي ونجله ووزير دفاعه، فمهمّة (النّاتو) لم تكن في الأساس لحماية المدنيين فهذه ذريعة ولا تغيير النّظام وإنما قتل رأس النّظام أيضا· بإعدام العقيد القذافي بالطريقة الدموية التي شاهدنا وشاهدها معنا العالم بأسره تكون ليبيا طوت صفحة سوداء في تاريخها، لكن المأمول أن تكون الصفحة الجديدة التي تنوي فتحها أكثر بياضا، عنوانها التسامح والترفّع عن النّزعات الثأرية والانتقامية التي لمسنا أبشع صورها في تصفية رموز النّظام السابق· ' ' ' صحيح أن ليبيا تملك المال، بل الكثير منه، حيث هناك أكثر من 160 مليار دولار مجمّدة أودعها النّظام السابق في حسابات أوروبية وأمريكية، ودخل سنوي من عوائد النّفط في حدود 50 مليار دولار سنويا، والمال ربما يسهِّل، بل يعجِّل بحلّ الكثير من المشاكل، لكن يظلّ سلاحُ المال هذا قاصرا وغير فاعل إذا لم يتمّ ترميم الوحدة الوطنية بسرعة وتحقيق المصالحة، وبالتالي التعايش بين مختلف القبائل والمناطق بروح بعيدة عن منطق المنتصر والمهزوم· الإعلام العربي والفضائي منه على وجه الخصوص، لعب دورا كبيرا في تزوير الكثير من الحقائق وخرج عن المهنية مرّات عديدة، وهذا لا يعني أن الإعلام الغربي كان أفضل حالا، وقد آن الأوان لكي يكفّر هذا الإعلام عن أخطائه ويعمل من أجل الحفاظ على وحدة ليبيا الترابية وتعزيز أواصر التلاحم بين أبناء شعبها الواحد· نخشى على ليبيا من التقسيم والتفتيت مثلما نخشى عليها من عدم الاستقرار والغرق في حروب داخلية حتى بعد إعدام العقيد القذافي، وهناك العديد من المؤشّرات التي تعزّز هذه المخاوف، حيث فوضى السلاح والخلافات بين اللّيبراليين والإسلاميين والمشارقة والمغاربة، وهي مخاوف عبّر عنها قادة في نظام الحكم الانتقالي الجديد أنفسهم· العقيد القذافي لم يجد أحدا يتعاطف معه، وإذا كان هناك من متعاطفين في الداخل والخارج فهم قلّة خجولة لا تجرؤ على إظهار تعاطفها لأن سجّل الرجل الدموي لم يكسبه الكثيرَ من الأصدقاء، والمأمول أن يكون حكّام ليبيا الجدد عكسه تماما، وأن لا تحرّكهم الأحقاد والثارات، وإن كنّا حذرين جدّا في الإغراق في التفاؤل بعد أن شاهدنا عدالة الخارجين عن القانون تطبّق ضد من يختلفون معهم، وهم في أبشع لحظات ضعفهم وانهيارهم· * نعم معمّر القذافي كان مجرما دمويا، نكّل بأفراد شعبه وحرمهم من أبسط سبل العيش الكريم، وهم أناس أحرار، شرفاء، سِمتهم التواضع والكرم وعزّة النّفس ويرضون بأقلّ القليل، لكن هذا لا يعني أن يُعامَل بالطريقة التي كان يعامِل بها خصومه ومعارضيه الذين يطالبون بالقضاء العادل واحترام الحدّ الأدنى من مبادئ حقوق الإنسان وقيمها· * شخصيا، أصبت بصدمة وأنا أرى بعض العناصر التابعة للمجلس الوطني الانتقالي تنهال ضربا وبالأحذية على رأس رجل جريح وتجرّه على الأرض، وتضاعفت هذه الصدمة عندما جرى عرض جثمانه وولده المعتصم في حاوية قذرة في مصراتة أمام المارّة، وكأن لا حرمة للموتى عبد الباري عطوان· القدس العربي