حفلت الآيات الكريمة التي وردت في سياق تشريع العبادات بإبراز المقاصد الشرعية منها، وذلك لما علمه الله تعالى في جبلة الناس من النسيان والغفلة· وحين يطول الأمد وتقسو القلوب تتحول العبادات عند بعض المؤمنين إلى رسوم وعادات يؤدونها بمظاهرها وصورها، ولا يتحسسون قلوبهم إثرها، بل يغرقون في دقائقها وتفصيلاتها، ثم تأتي مرحلة أخرى جرت على أهل الكتب كلهم بسبب الغفلة عن المقاصد الشرعية، وهي أن يضاف إلى العبادة ما ليس منها مما أوحاه إليهم الانهماك في ظاهرها والانقطاع عن روحها ولبها ومقصدها· ومن تأمل هذا ووعاه أدرك طرفاً من الحكمة البالغة في تكرار القصد من تشريع العبادة· ففي شأن الصلاة وهي أم العبادات، يأتي السياق القرآني مؤكداً على أثرها في صياغة سلوك المسلم؛ لأنها (تنهى عن الفحشاء والمنكر)، وفي شأن الزكاة كان التأكيد على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهِّرهم ويزكيهم بها، وتكون سبباً في صلاته عليهم، ولهذا كان صلى الله عليه وسلّم إذا جاءه قوم بزكاتهم قال: (اللهم صل على آل فلان)، وفي شأن الصوم، وضمن سياق مفصل مؤثر قال الله تعالى"لعلكم تتقون"· وفي شأن النسائك، وهي الذبائح والنحائر المرتبطة بمشعر الحج، يقول تعالى: "لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤُها ولكن يناله التقوى منكم"، بل في الحج ذاته يبين تعالى أن المقصد من النسك كله هو "ليذكروا اسم الله"، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: (إنما جُعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله)· رواه الدارمي وأبو داود وأحمد· فهل يستشعر المؤمن وهو يطوف بالبيت هذا المعنى أو تغلب عليه روح المنافسة والانتصار فهو يزاحم بمنكبيه، ويصارع بيديه، ويجادل بصوته، وكأنه في حلبة عراك؟ أو هل يدرك هذا وهو يدفع من المشاعر وقد احتدم الزحام واصطك الحاج، وصارت رغبة النفس أن تسبق إلى غايتها الجديدة، وتفاخر الناس بذلك، فما يقطعونه في ساعات قد تحقق لي في دقائق وقد كان من سنته عليه السلام في الدفع من عرفة: (السكينة السكينة·· فإن البر ليس بالإيضاع)· إن البر هو مقصود الحج، وهو لا يتحقق بالإسراع والعجلة والحطم، وإنما بالسكينة والإخبات، أو هل يستشعر الحاج هذا المعنى وهو يرمي الجمرات، وقد استجمع في نفسه ذكريات ما رأى أو سمع من شدة الموقف، والموت تحت الأقدام والحديث المسترسل بعدُ مع الصحبة عن الرمي وما جرى فيه، والحيلة والقوة والشدة· التربية الربانية إن العبادات الجماعية تربية ربانية على أداء الواجب بإتقان وإخلاص، وعلى رعاية حقوق الآخرين ومنازلهم، وإكرام كبارهم، والرحمة بصغارهم، والشفقة على غريبهم وضعيفهم وجاهلهم؛ ولهذا قال سبحانه "الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج". فهو تخففٌ من الدنيا وحظوظها ينأى به المحرم عن الرفث، وهو الجماع ودواعيه، وهو من محظورات الإحرام باتفاق، ويلتحق بهذا ترك فضول الحديث عن النساء مما يثير الغرائز ويحرك الشهوات، كما ينأى به عن الفسوق، وهو المعاصي كلها، وكان الأوزاعي يرى فيمن سب أو شتم أن عليه فدية لهذه الآية، ولئن كان مذهب الأوزاعي مرجوحا في هذا؛ فإن الفسوق للحاج انتهاك لحرمة النسك، وجراءة على الحرم المقدس، فضلا عن كونه محرماً أصلا· أما الجدال فهو المخاصمة بالباطل، والاسترسال وراء نوازع النفس وأنانياتها التي تأبى إلا أن تكون الغلبة والكلمة الأخيرة لها دون أن تلتفت إلى حق وباطل، أو خطأ وصواب، أو على أدنى الأحوال أن تلتفت إلى الاحتمال· ولقد كان الشافعي رحمه الله يقول: قولي صوابٌ يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب، ويقول بعض الظرفاء: حريٌّ بأمثالنا أن نقول: قولنا خطأ يحتمل الصواب! إن جرعة يبتلعها المرء من غيظ عابر خير من معركة يخوضها مع جليسه أو صاحبه لا تقرب من جنة ولا تباعد من نار، ولا تدل على هدى، ولا تصد عن ردى، ولكن أين المعتبر؟ وكل ما شرع الله في الحج، وفي غيره فهو لمصلحة عبادة العاجلة والآجلة، ولهذا قال تعالى في أمر النسك: "ليشهدوا منافع لهم" والمنافع تشمل الأجر في الآخرة كما ذكره قوم من المفسرين، والتجارة في الدنيا كما ذكره آخرون، والمصالح وراء ذلك كما ذكره الطبري عن مجاهد قال: التجارة، وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة· ولقد يطول عجب المرء من غفلة كثير من المسلمين الصلحاء عن قيم الحج ومراميه وآثاره في النفس والسلوك والحياة، ولو سألوا عن هذا المعنى كما يسألون عن تفصيلات ما يعرض لهم من الأحكام لكان هذا خيراً لهم وأقوم· والحج مؤتمر للعبادة، كما هو مؤتمر للتجارة، كما هو مؤتمر للسياسة، لا بمفومها الضيق الخاص الذي يحول الاجتماع إلى فُرقة، ولكن بمفهوم السياسة الإسلامية العليا التي تنتظم مصالح الأمة وترسم خططها وتلتمس طريقها في هذه اللجج المضطربة· * الحج مؤتمر للعبادة، كما هو مؤتمر للتجارة، كما هو مؤتمر للسياسة، لا بمفومها الضيق الخاص الذي يحول الاجتماع إلى فُرقة، ولكن بمفهوم السياسة الإسلامية العليا التي تنتظم مصالح الأمة وترسم خططها وتلتمس طريقها في هذه اللجج المضطربة· بقلم: الشيخ سلمان بن فهد العودة