إن الذين أيدوا الثورة منذ البداية ولكنهم يريدون الآن إعطاء شفيق اضطرارا وخوفا من سيطرة الإخوان على الدولة، فاتهم وغاب عنهم أن رئيس الجمهورية القادم لن يكون له ذات صلاحيات مبارك، ليس فقط بسبب تقليص هذه الصلاحيات في الدستور الجديد، ولكن لأن الدولة القديمة بكل هيمنتها وهيلمانها لن تتخلى بسهولة عن صلاحياتها الشاملة والمتغلغلة لأي رئيس جمهورية من القوى الجديدة المرتبطة بالثورة سواء كان مرسى أو حمدين أو أبو الفتوح. وستعمل منذ اللحظات الأولى على إبقاء منصبه شرفيا وتقليص سلطاته إلى أبعد الحدود والحيلولة دون تمكينه من الحكم الفعلي، ووضع كل أنواع العقبات أمامه وتجريد قراراته من اى قوة تنفيذية. وسيضطر الرئيس المنتخب أن يصارع لسنوات طويلة جنبا إلى جنب مع باقي القوى الوطنية لإنجاح الثورة وانتزاع كل السلطات والصلاحيات التي سيتضمنها الدستور الجديد. أما في حالة نجاح احمد شفيق، لا قدر الله، فسيلتحق فورا بمؤسسة الدولة خادما أمينا مطيعا، كما كان على الدوام، ليشغل ويملأ جزء من الفراغ الذي خلا بسقوط مبارك، جنبا إلى جنب مع المجلس العسكرى وشركاه، لتعود ريما إلى عادتها القديمة. ان كل المكاسب التي حققتها قوى الثورة في الميدان والبرلمان وفي الرئاسة في حالة فوز مرسى، كل هذه مجتمعة لن تملك من امر مصر إلا القليل الذي قد لا يتعدى نسبته 10 % من حجم القوة والسلطة التي ستظل تملكها وتسيطر عليها وتتحكم فيها الدولة القديمة لسنوات قادمة، وهو ما سيتطلب توحدنا وتضافرنا معا أكثر من أي وقت مضى في مواجهتها. - وللتذكرة فإن الدولة القديمة تسيطر على القوات المسلحة والشرطة وكل أجهزة الأمن بكل تنويعاتها، وهي التي تتحكم في الحالة الأمنية انضباطا أو انفلاتا وفق الحاجة. - والدولة تحتكر ملفات العلاقات الخارجية وعلى رأسها العلاقات مع الولاياتالمتحدة بكل ما فيه من معونات عسكرية ومناورات مشتركة وتنسيق أمني وتسهيلات لوجيستية والتي ستستطيع من خلالها أن تضغط بقوة على صناع القرار المنتخبين من القوى الجديدة، ويكفى ان نتوقف أمام دلالة أن الكونغرس قد اعتمد بالفعل منذ بضعة شهور المعونات العسكرية لمصر ولم ينتظر نتيجة انتخابات الرئاسة لإدراكه أن المجلس العسكري لن يترك الفعلية السلطة قريبا. - وكذلك ملف العلاقات المصرية الاسرائيلية الذي ستسيطر عليه الدولة عبر أجهزتها المعنية التقليدية وستحاول دائما أن تستخدمه كفزاعة لتطويع إرادة الرئيس والبرلمان. - وستستمر أيضا في السيطرة على ملف العلاقات المصرية الخليجية والسعودية وما يتضمنه من ملايين المصريين العاملين هناك، والذي سيمثل سلاحا قويا وفعالا فى الضغط والترويض، وهو السلاح الذي ذقنا مرارته في أزمة الجيزاوي الأخيرة. - وأيضا من خلال التحالف مع شبكة رؤوس الأموال الأجنبية والمصرية بقيادة صندوق النقد الدولي والتي يمكنها من الضغط بأزمات اقتصادية مفتعلة مثل تجميد الاستثمارات وتهريب الأموال وإغلاق المصانع وتسريح العمال وتخفيض التصنيف الائتماني واستنزاف الاحتياطي النقدي والحصار المالي والاقتصادي وخفض قيمة الجنيه..الخ - وأيضا تسيطر الدولة القديمة على مخزون السلع الاستراتيجية ودهاليزها التى تمس الحياة اليومية للمصريين والتي ستستطيع من خلالها ان تفبرك الأزمات أو تحلها حسب الطلب، وهو ما جربناه بالفعل في أزمات السولار والبنزين والبوتاجاز. - ناهيك عن نفوذ الدولة العميق في المؤسسات القضائية الذي ظهر بوضح في أزمة المتهمين الأمريكان وتصويت أكثر من 50 بالمائة من قضاة الجمعية العمومية لصالح المستشار عبد المعز ابراهيم، وفي التحقيقات مع مبارك ومحاكمته وفي القيادات الحالية لنادي القضاة وغيرها. - كما أنها متغلغلة في الإعلام الرسمي والخاص وفي التعليم والبنوك والازهر والأوقاف والمحليات وعديد من الأحزاب السياسية وغيرها، ولها جيوش من الكتاب والصحفيين والفنانين والمرشدين في كل مكان بالإضافة إلى آلالاف من كبار الموظفين ونوابهم ومساعديهم وصبيانهم في كافة مؤسسات الدولة. - وهي تحتفظ بكل مفاتيح وأسرار الثروات القومية والعامة والخاصة، وتمتلك ملفات الملايين من المصريين التي تستخدمها دائما للضغط والتهديد والتجنيد. - إنها غابات وشبكات معقدة وكثيفة من العلاقات والمصالح والأشخاص والمؤسسات والمعلومات التي ستعمل مجتمعة على الاحتفاظ بالنظام القديم وتفريغ الثورة من مضامينها، وانهاك الحكام الجدد وإفشالهم كمقدمة للتخلص منهم لاحقا بمباركة شعبية كاملة ! لكل ما سبق وغيره الكثير يجب أن ندرك بوضوح أن خيارنا الحالي ليس بين دولة دينية وأخرى عسكرية أو بين المطرقة والسندان أو بين المر والأمر منه، إلى آخر كل هذه الثنائيات الخادعة التي انتشرت مؤخرا في الأحاديث الإعلامية والسياسية. بل إن الخيار الحقيقي الآن هو بين التنازل عن الثورة وعن مكتسباتها البسيطة والاستسلام للدولة القديمة. وبين مقدرتنا بكل تنوعاتنا وتناقضاتنا وعيوبنا على التوحد من اجل إسقاط خليفة مبارك، ثم العمل بعد ذلك على تمكين الثورة ممثلة فى رئيسها وبرلمانها وميادينها في معارك طويلة قادمة، ستحتاج فيها كل قوى الثورة إلى بعضها البعض، بدون استثناء، أكثر من أي وقت مضى. * بقلم: محمد سيف الدولة