بعد أكثر من ألف وخمسمائة عام على الغياب كان (العالم) المعاصر على موعد يوم السادس من أفريل 1896 مع عودة الألعاب الأولمبية إلى سالف عهدها، عادت بثوب جديد، عادت وعاد معها التنافس الأخوي الرياضي من مختلف أصقاع العالم. شكّل تاريخ السادس من أفريل 1896 نصرا عالميا للفكرة (الكوبرتانية) التي انتصرت بعد كفاح سنوات ونجحت في حشد أكبر تجمّع رياضي عالمي في التاريخ حتى اليوم المذكور، دولاً ورياضيين، فأتت الدورة الأولمبية الأولى ناجحة بكلّ المقاييس، خصوصا وأن حماسة كبيرة أظهرها الشعب اليوناني للحدث، ممّا أضفى رونقا خاصّا على الدورة التي شكّلت باكورة تسعة وعشرين دورة فعلية تلت حتى الآن دون احتساب الملغاة منها قسرا بسبب الحروب. ترى لِمَ تمّ اختيار عاصمة اليونان أثينا لإقامة أوّل بطولة؟ ما هي البلدان التي كان لها شرف المشاركة فيها؟ من توّج بلقبها؟ ومنهم أبرز الرياضيين الذين دخلوا تاريخ الأولمبياد الحديثة في أوّل محطّة لها؟ كلّ هذه الأسئلة وغيرها ستجدون الإجابة عنها في حلقة هذا العدد. اختيار أثينا تمّ في جوان 1894 اختيرت عاصمة اليونان أثينا لإقامة أوّل دورة للألعاب الأولمبية الحديثة في الثالث والعشرين من جوان 1894، في مؤتمر دولي جرى على مدار ستّة أيّام في العاصمة اليونانية أثينا لاستضافة أوّل دورة أولمبية باعتبارها الأحقّ في الدورة الأولى كون الألعاب القديمة انطلقت منها. مشاركة 14 دولة يمثّلها 241 رياضي دون النّساء نظّمت الدورة بمشاركة أربعة عشر دولة ومائتي وواحد وأربعين رياضي تنافسوا فيما بينهم في تسع رياضات ضمّت ثلاثة وأربعين مسابقة، غابت عنها النّساء كلّيا واقتصرت المشاركة على الرجال، وحدّد تاريخ إقامتها في الفترة ما بين السادس والخامس عشر من شهر أفريل 1896. شعار البطولة لم يجر وضع أيّ شعار خاص بدورة أثينا 1896، لكن غلاف التقرير الرّسمي عن البطولة بات يستخدم كشعار يدلّ على أوّل ألعاب أولمبية، وقد نقش على هذا الملصق أو الشعار (776-1896) كتاريخ يدلّ على نشأة الألعاب القديمة والحديثة، كما نقش الإستاد الأولمبي بشكله الجديد (الأكروبوليس) وفتاة تمثّل آلهة أثينا مرسومة وكأنها تقدّم غصن زيتون لفائز ما. الفريق المختلط سمح في بدايات الألعاب الأولمبية بأن يلعب بعض الأفراد مع فرق من غير جنسياتهم، فما كان من اللّجنة الأولمبية الدولية إلاّ أن وضعت نتائج هذه الفرق تحت اسم الفريق المختلط (mixed team)، أمّا رمز هذه الفرق الأولمبية والمتعارف عليه أولمبيا فهو (zzx). والمفارقة أن ميداليات الفريق المختلط جاءت جميعها في كرة المضرب لفئة الزّوجي، ففاز في المركز الأوّل بريطاني وألماني، وفي الثاني يوناني ومصري (يوناني من أصل مصري)، وفي المركز الثالث أسترالي وبريطاني. الدول المشاركة أمّا الدول التي شاركت فهي أستراليا، إيطاليا، السويد، سويسرا، الدانمارك. ألمانيا، فرنسا، بريطانيا العظمى، بلغاريا، النّمسا، المجر، الشيلي، الولايات المتّحدة واليونان. الرياضات المدرجة أمّا الرياضات التي كانت مدرجة آنذاك فهي الدرّاجات، المصارعة، ألعاب القوى، السباحة، التنس، الرماية، الجمباز، المبارزة ورفع الأثقال. وكانت الولايات المتّحدة هي الأبرز بين المشاركين، خصوصا في ألعاب ألقوى. وجرت المباريات في ملعب باناثينايك الذي أعيد بناؤه خصّيصا لهذه الألعاب بأموال تبرّع بها أثرياء يونانيون لنجاح الحدث، بالإضافة إلى ملاعب أخرى. الانطلاقة.. 6 أفريل 1896 انطلقت الدورة في الرّابع والعشرين من مارس 1896، وهو ما يوافق السادس من أفريل 1896 في الرزنامة المعروفة حاليا، ودامت إلى غاية الخامس عشر من نفس الشهر. جرى حفل افتتاح الدورة في السادس من أفريل في ملعب باناثينايك أمام ثمانين ألف متفرّج، تقدّمهم ملك اليونان جورج وزوجته وأبناؤهما. وأعلن الملك جورج افتتاح الألعاب قائلا: (إنني أعلن افتتاح أوّل ألعاب أولمبية في أثينا)، ثمّ تمّ عزف نشيد البطولة بمشاركة فرقة موسيقية ضخمة قوامها أكثر من مائة وخمسين عازف ومؤدّي، وأضفى النشيد جوّا رائعا على الافتتاح، ممّا دفع بالمشجّعين إلى المطالبة بالمزيد. قوانين الدورة الأولى لم تكن قوانين الدورة الأولى من حيث الجوائز كما نعهدها اليوم، فكانت تمنح فقط للأوّل والثاني وليس للثالث مكافأة خاصّة. فكان الأوّل يحصل على ميدالية فضّية وشهادة تقدير وتاج من أغصان الزيتون، أمّا الثاني فكان يحصل على ميدالية برونزية وشهادة تقدير وتاج من الغار، في حين أن جميع المشتركين كانوا ينالون ميدالية تذكارية عن المشاركة. ولم يكن التتويج يلي المنافسة كما اليوم، بل كان يجرى في ختام البطولة، حيث يقوم الملك جورج بتقليد الفائزين في الحفل النّهائي. ويذكر أن ميداليتي الفائزين الأوّل والثاني هما من تصميم الفرنسي جول شابلين، في حين أن التذكارية منها من تصميم اليوناني نيكيفوراس ليتراس. تسعة أيّام من التنافس والأمطار أجّلت حفل الاختتام بعد تسعة أيّام من التنافس كان مقرّرا أن يجري حفل الختام للدورة في الرّابع عشر من أفريل 1896، لكن سوء الأحوال الجوية والأمطار دفعا المنظّمين إلى تأجيل الحفل الختامي إلى الخامس عشر من الشهر نفسه، حيث جرت مراسم الختام بحضور الملك وعائلته أيضا وبدأت بالنشيد اليوناني، ثمّ قصيدة لشاعر بريطاني، تلاها توزيع الميداليات والجوائز على الفائزين، ثمّ قام العدّاء اليوناني الفائز بالماراطون سبيريدون لويس بدورة نصر في الملعب تصدّر فيها العدّائين الفائزين، وعلى وقع نشيد البطولة قبل أن يعلن الملك رسميا انتهاء الألعاب (إنني أعلن رسميا انتهاء أوّل دورة ألعاب أولمبية). المسابقات الرياضية المسابقة الأبرز في هذه الألعاب كان الماراطون الذي ما إن أعلن عن إدراجه ضمن جدول المسابقات حتى تحمّس اليونانيون كثيرا نظرا للمعاني التاريخية والوطنية لهذا السباق لهم، فشرعوا يبحثون عن أكفأ العدّائين لديهم. وشارك في السباق النّهائي ستّة عشر متسابقا، منهم أربعة من خارج اليونان هم الفرنسي ألبين ليرموسيو ثالث سباق ال 1500م، والذي شارك في ال800م، الأسترالي أدوين فلاك بطل سباقي ال 800م وال 1500م، الأمريكي أرثور بلاك الذي حلّ ثانيا في ال 1500م والمجري غيولا كيلنر. سباق الماراطون عاد لليونان تصدّر العدّاءون الأجانب في بداية الماراطون على حساب عدّائي اليونان، لكن انسحاب الأمريكي والفرنسي والأسترالي تباعا في كيلومترات مختلفة قلب المقاييس، فنجح العدّاء اليوناني سبيريدون لويس في الفوز بالسباق وسط فرحة يونانية مجنونة. وقد ركض الملك جورج مع المتسابق اليوناني في آخر السباق داخل الملعب، في حين أن المكافآت انهالت عليه من الجماهير كلّ على طريقته، وجاء كيلنر رابعا ومُنح ميدالية برونزية كونه الأجنبي الوحيد الذي نجح في إنهاء السباق. الفرنسي بول ماسون نجم سباق الدرّاجات جرت منافسات سباقات الدرّاجات على المضمار في نيو فاليرون فيلودروم، وهو مركز رياضي في أثينا، في حين أن سباقا واحدا جرى على الطريق لمسافة 85 كيلومترا. وقد تمكّن الفرنسي بول ماسون من أن يكون أفضل درّاج على المضمار بفوزه بثلاث مسابقات ضد الوقت وسباق السبرنت وسباق العشرة آلاف متر. وفاز النّمساوي أدولف في سباق الاثنتي عشر ساعة، علما أن متسابقين فقط اشتركا في هذا السباق، في حين فاز اليوناني أريستيديس في سباق الطريق. أمّا سباق المائة كلم داخل المضمار فقد فاز فيه الفرنسي ليون فلامينغ، علما أنه توقّف خلال السباق وانتظر أحد منافسيه اليونانيين كي يصلح عطلاً في الدرّاجة. البريطاني الإيرلندي جون بيوس بولاند نجم كرة المضرب بالانتقال إلى كرة المضرب التي كان لها شأنا عظيما في نهاية القرن التاسع عشر، أحرز اللّقب البريطاني الإيرلندي جون بيوس بولاند بسهولة، علما أنه كان سائحا وقتها في اليونان واشترك بالصدفة عبر أحد أصدقائه اليونانيين. كما فاز بمسابقة الزّوجي التي خاضها بمشاركة زميل ألماني هو فريندريش ترون كان قد خسر أمام بولاند في الدور الأوّل، علما أن الألماني شارك في سباق ال 800م وخسر، وقد تمكّن الزّوجي البريطاني الألماني من الفوز على زوجي يوناني مصري في النّهائي. فرنسا تتوّج بلقب المبارزة في مسابقة سلاح المبارزة التي جرت في مركز زابيون المسمّى باسم (إيفانجلوس زاباس) أحد منظّمي الألعاب الأولمبية اليونانية المحلية في القرن التاسع عشر، فازت كلّ من فرنسا واليونان. سيطرة ألمانية في السباحة في الجمباز سيطر الألمان بشكل كبير بعد أن أرسلوا وفدا ضمّ إحدى عشر لاعبا فتفوّقوا في خمس مسابقات من ثماني وفي بعض المنافسات حازوا على المراكز الثلاثة الأولى، أمّا منافسات السباحة فجرت في البحر وليس في مسبح خاص، وتضمّنت أربع سباقات في السباحة الحرّة، برز فيها بشكل خاص المجري ألفريد هايوس الذي فاز بسباقي المائة متر والألف ومائتي مترا. رياضة رفع الأثقال جرت في الهواء الطلق جرت منافسات رياضة رفع الأثقال في الهواء في الطلق بقوانين مختلفة كلّيا عن تلك المعروفة اليوم، فلم تكن هنالك أوزان محدّدة، بل كان الجميع يتبارون سويا شأن رياضة المصارعة التي كانت أقرب إلى المصارعة اليونانية-الرومانية. إذ لم تكن هنالك أوزان محدّدة، أي بطل واحد يتوّج في النّهاية، كما لم تجر المباريات لوقت محدّد، بل كانت مفتوحة، أمّا رياضة الرماية فقد جرت بخمس مسابقات، اثنتان منها بالبندقية وثلاث بالمسدس. البريطاني جايمس كونولي صاحب أوّل ميدالية في تاريخ الأولمبياد في السادس من أفريل 1896 بات البريطاني جايمس كونولي البالغ 27 عاما حينها، أوّل من يحرز ميدالية ذهبية في الألعاب الأولمبية الحديثة بعد فوزه بذهبية الوثب الثلاثي التي كانت مختلفة تقنيا عمّا نعرفه الآن، إذ كانت تؤدّى بحجلتين (الحجلة هي الارتقاء بإحدى القدمين والهبوط على القدم نفسها) ووثبة، أمّا الآن فحجلة+خطوة +وثبة. ولم تقتصر ميداليات البريطاني على الوثب الثلاثي، بل تخطّتها إلى المركز الثاني في الوثب العالي والثالث في الوثب الطويل. سبيريدون لويس.. أبرز بطل في أوّل أولمبياد نظرا للأهمّية التاريخية لسباق الماراطون لدى اليونانيين، والذي تعود قصّته إلى المحارب فيديبيديس الذي اجتاز مسافة 42 كلم من مدينة ماراطون إلى أثينا لتبليغ الحكّام خبر انتصار اليونانيين في معركة ماراطون العام 490 ق.م، بات سبيريدون لويس أبرز بطل في أولمبياد أثينا 1896 ونجمه الأوّل بعد فوزه عن عمر 24 عاما وقتذاك بالمركز الأوّل في السباق المذكور متفوّقا بأكثر من 7 دقائق عن صاحب المركز الثاني، علما أن سبيريدون انتزع الصدارة في آخر أربع كيلومترات وقتها. حكاية تتويج جون بولاند بلقب كرة المضرب كان الإيرلندي جون بولاند تلميذا من جامعة أوكسفورد شغوفا بدراسة الأساطير اليونانية القديمة، سافر إلى أثينا لحضور الألعاب الأولمبية كسائح حين علم بإقامتها، وهو الذي كان على اطّلاع على الألعاب الأولمبية القديمة فكان أن اشترك صدفة في الألعاب برياضة كرة المضرب بنصيحة من زميله ثراثيفولاس مانواس، سكرتير اللّجنة المنظّمة للدورة وقتها. واستطاع بولاند بالرغم من انتعاله حذاء جلديا قاسيا الفوز بالمركز الأوّل في المسابقة المذكورة. اليونان حلّت ثانية في ترتيب الميداليات يعتبر جدول ترتيب الميداليات هذا رسميا ومأخوذا عن التقارير الرّسمية للبطولة، لكن عموما يصعب إعطاء أرقام إحصائية دقيقة جدّا لبعض الدول نظرا لأن بعضها كان يتمثّل أحيانا بلاعبين من جنسيات مختلفة. وتصدّرت في الختام الولايات المتّحدة الأمريكية جدول الميداليات أمام اليونان وألمانيا, تطالعون في الحلقة المقبلة: هل بقيت الألعاب الأولمبية حكرا على الرجال؟ أين أقيمت الدورة الثانية؟ هل حقّقت أهدافها؟ لماذا لم يجرى حفل افتتاح والاختتام على غرار الدورة الأولى؟ ومن هو البلد الذي أزاح الولايات المتّحدة الأمريكية من لقبه؟ إضافة إلى كلّ هذا سنحكي لكم قصّة غريبة قد لا يصدّقها الكثيرون، كلّ هذا تجدونه في الحلقة المقبلة.