بعكس ما أمّلت إسرائيل، فإن ردود حركة حماس على التصعيد الصهيوني الأخير على القطاع شذت عما كان مألوفاً، وهو ما أربك الحسابات الإسرائيلية بشكل واضح. لقد باتت حركة حماس تحرص على الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، حتى عندما تطال الفصائل الأخرى، وفي بعض الأحيان يبادر الجناح العسكري للحركة (كتائب عز الدين القسام) إلى تنفيذ عمليات هجومية ضد ألوية جيش الاحتلال ووحداته الخاصة التي تتحرك على الحدود مع قطاع غزة. وقد عمدت (كتائب القسام) -في خطوة تظاهرية لها دلالاتها- إلى تنفيذ عمليات مشتركة مع الفصائل الأخرى، التي كان بعضها يتهم الحركة بأنها لا تمنحها الحرية لتنفيذ عمليات ضد قوات الاحتلال. على مدى العامين اللذين أعقبا الحرب على غزة، درجت إسرائيل على تنفيذ عمليات الاغتيال ضد نشطاء حركات المقاومة واستهداف ما تعتبره (بنى تحتيّة) لها، دون أن تشارك حركة حماس في الغالب في الرد على هذه الاعتداءات، وهو ما فسرته دوائر التقدير الاستراتيجي والاستخباري في تل أبيب على أنه تجسيد لقوة الردع التي راكمها الجيش الإسرائيلي في مواجهة الحركة في أعقاب حرب 2008، ولخشية حركة حماس من أن يؤدي التصعيد إلى فتح مواجهة واسعة تؤدي إلى سقوط حكمها في القطاع. هذا التحول يطرح العديد من الأسئلة: لماذا تغيّر سلوك حركة حماس؟ وما هي الخيارات المتاحة أمام إسرائيل لمواجهة الواقع الجديد، خاصة أنها باتت الآن في ذروة حملة انتخابية؟ وما يتوجب على المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة القيام به لتقليص هامش المناورة أمام الكيان الصهيوني؟ قواعد جديدة للمواجهة لقد بات من الواضح أن حركة حماس بلورت قواعد جديدة للمواجهة مع إسرائيل، حيث إن الحركة تسارع في الغالب للرد على العمليات الإسرائيلية، وفي بعض الأحيان تسعى إلى جرّ جيش الاحتلال إلى مواجهات محدودة، وهذا ما يجسده عمليات نصب الكمائن وزرع العبوات الناسفة التي تنفذها الحركة، والتي تستهدف جيش الاحتلال. واللافت أن حجم وطابع ردود حركة حماس لا تندرج في إطار ردود (رفع العتب)، بل إن الحركة تتعمد، رداً على عمليات الاغتيال، قصف التجمعات الاستيطانية ذات الكثافة السكانية العالية، في محيط قطاع غزة، مع ما يمثله هذا من إحراج لدوائر الحكم في تل أبيب. لقد أدركت حركة حماس أن غضها الطرف عن عمليات التصعيد الإسرائيلية وعدم مشاركتها في عمليات الرد على الاعتداءات الإسرائيلية أسهم فقط في فتح شهية الكيان الصهيوني، وشجعه على مواصلة الاعتداءات على غزة، ما أحرجها أمام الجمهور الفلسطيني؛ وجعلها عرضة لانتقادات حادة من الفصائل الفلسطينية. لقد فسر الكثيرون سلوك حركة حماس على أنه تخلٍّ تدريجي عن خيار المقاومة واستلاب لخيار الحكم، الذي فرّغه الحصار السياسي والاقتصادي من أي مضمون حقيقي، علاوة على أنه منح المجموعات المتطرفة، القدرة على المزايدة على الحركة. أدركت حركة حماس أن صيغة الحكم القائم في غزة، التي تورطت فيها، مثلت في الواقع طوقاً أطبق على عنق الحركة، وقلص هامش المناورة أمامها، وهو ما أراح إسرائيل. ومن الواضح أن كل المؤشرات تدل على أن التوجه الجديد لحركة حماس يمثل تحولاً استراتيجياً يهدف بشكل أساسي إلى الحفاظ على الطابع المقاوم للحركة، وعدم السماح بأن تتحول الحركة -مع مرور الزمن- إلى نسخة أخرى من حركة فتح. المأزق الإسرائيلي مما لا شك فيه أن التحول في موقف حماس أربك الحسابات الإسرائيلية؛ حيث إنه جاء في ذروة تحولات إقليمية تقلص من قدرة إسرائيل على الرد على المقاومة بشكل كبير، وتجعل من الصعب على الكيان الصهيوني شنّ حرب على غرار الحرب التي شنها أواخر عام 2008. وبالتالي فإن هناك مخاوف حقيقية لدى صناع القرار في تل أبيب أن ترغم الضغوط التي يمارسها الرأي العام المصري، في أعقاب حملة عسكرية إسرائيلية كبيرة على قطاع غزة، دوائر الحكم في مصر على إعادة النظر في اتفاقات (كامب ديفيد) التي تعتبرها إسرائيل أحد أعمدة أمنها القومي. تدرك إسرائيل أن أي عمل عسكري كبير على غزة قد يؤدي إلى القضاء على أي فرصة لإصلاح العلاقات مع تركيا؛ مع العلم أن الدعوات تصاعدت في تل أبيب للعمل على إصلاح هذه العلاقات بأقصى سرعة، وذلك لتقليص الأضرار الاستراتيجية التي لحقت بالكيان الصهيوني في أعقاب الربيع العربي. في الوقت ذاته، فإن إسرائيل تخشى أن تؤدي نتائج أية حملة عسكرية كبيرة على قطاع غزة إلى لفت أنظار العالم عن البرنامج النووي الإيراني وستهدد تماسك التحالف الدولي المتبلور ضد إيران، وستقلص من هامش المناورة أمام بعض الدول العربية لأداء دور ضمن هذا التحالف. إلى جانب ذلك، فإن إسرائيل تخشى أن يطرأ مزيد من التآكل على مكانتها الدولية في أعقاب أية حملة عسكرية على القطاع. لكن أكثر ما يقلص هامش المناورة في إسرائيل هو الإدراك المتعاظم لدى دوائر صنع القرار السياسي ومحافل التقدير الاستراتيجي بأنه لا يوجد في الواقع حلول عسكرية حقيقية لتهديد الصواريخ في قطاع غزة؛ بمعنى أنه حتى عملية عسكرية كبيرة على قطاع غزة لن تؤدي إلى وقف عمليات إطلاق الصواريخ، حتى وإن أدت إلى مقتل المئات من المقاومين. المقاومة.. والحكمة المطلوبة واضح تماماً أن الشواهد تدل على أن حركة حماس نجحت حتى الآن في إملاء معادلة واضحة المعالم في المواجهة مع إسرائيل، حيث إنها باتت تمارس حقها في الرد على العمليات العدائية الإسرائيلية؛ ولم تعد الأمور كما كانت عليه في الماضي. وهناك حتى الآن ما يكفي من الدلائل التي تؤكد أن إسرائيل باتت تسلم بهذا النسق مع العلاقة، على اعتبار أن خيارات التصعيد الواسع لا تخدم مصالحها. وهذا الواقع يمثل إنجازاً للمقاومة الفلسطينية كلها، لأنه يدل على أن زعم إسرائيل أنها نجحت في مراكمة الردع في مواجهة حماس كان سابقاً لأوانه ومبالغاً فيه. لكن هذا الإنجاز يتطلب من المقاومة التعامل بحكمة شديدة، وأن تراعي المتغيرات الإقليمية والدولية والواقع الداخلي الإسرائيلي، وبكل تأكيد مراعاة موازين القوى العسكرية. من هنا يتوجب الحذر، وعدم السماح بتوفير البيئة والظروف لإسرائيل التي تسمح لها بتغيير القواعد الجديدة للمواجهة، مع الأخذ بعين الاعتبار طابع موازين القوى العسكرية الذي يميل لصالح إسرائيل بشكل كبير.