بقلم: فهمي هويدي الأزمة في مصر أعمق مما نتصور، واختزالها في مجرد الصراع مع الإخوان يضللنا، لأنه يشغلنا بالعرض ويلهينا عن حقيقة المرض. لنعترف ابتداء بأننا نتعامل مع أزمة لم نتفق على تشخيصها، والشيء الوحيد المتفق عليه هو أن الأزمة موجودة، وما عاد بوسع أحد أن ينكرها. وهذا الاعتراف يستدعي معطيات جديرة بالرصد، أزعم أنها تعوق مسعى التشخيص الصحيح الذي ننشده. من تلك المعطيات ما يلي: - إن خلفيات الزلزال الذي حدث في 30 جوان الماضي أصبحت مثيرة للتساؤل واللغط، الأمر الذي يثير ظلالا من الشك حول مقاصد ما جرى آنذاك. وشهادات أعضاء حركة تمرد التي سمعنا بها في أواخر شهر أفريل الماضي هي التي تستدعي تلك التساؤلات. وتلك الشهادات موجودة الآن على شبكات التواصل الاجتماعي، وقد حررها أعضاء سابقون في الحركة، وتحدثوا فيها عن أدوار لأطراف بعضها يمثل الأجهزة الأمنية، والبعض الآخر ينتمي إلى نظام مبارك. كما تحدثوا عن أدوار لبعض الشخصيات المخاصمة لنظام الرئيس محمد مرسي، وعن قيام أشخاص من الأثرياء المصريين المقيمين في الخارج بتمويل أنشطة الحركة وتغطية نفقات اجتماعات تنسيقية عقدت في شرم الشيخ سبقت تظاهرة 30 جوان الماضي. ليست أمامنا فرصة للتثبت من صحة تلك المعلومات، خصوصا أن ثمة واقعا جديدا تشكل في مصر الآن وانبنى على ما جرى في 30 جوان الماضي. هذا صحيح لا ريب، إلا أن استعادة الأسئلة التي تثيرها تلك الشهادات لها أهميتها في عملية التشخيص الصحيح التي ندعو إليها، على الأقل من حيث أنها تدلنا على حقيقة الأطراف التي أسهمت في صنع الحدث وحقيقة الأهداف التي توختها والتقت عليها مع غيرها. وهو ما قد يوفر لنا الإجابة على السؤال الكبير التالي: هل كان المستهدف هو إنهاء حكم الإخوان فقط، أم إن تلك كانت خطوة لإجهاض ثورة 25 يناير 2011، ومن ثم توجيه ضربة قاصمة للربيع العربي كله؟ - النقص في المعلومات الخاصة بخلفيات ما جرى أفضى إلى تبسيط الصراع واختزاله في المواجهة مع الإخوان وما سمي بالإسلام السياسي، وهو ما نلاحظه الآن في لغة الخطاب السياسي والإعلامي، التي ما عادت تتحدث عن الديمقراطية أو مستقبل الوطن، كأن إزاحة الإخوان من المشهد ستؤدي تلقائيا إلى حل مشكلات البلد الأخرى. ولا بد أن نلاحظ في هذا الصدد أن المطلب الأساسي لحركة تمرد ولخروج الجماهير في 30 جوان الماضي كان إجراء انتخابات رئاسية مبكرة تحدد مصير مرسي وحكم الإخوان، لكن ذلك المطلب تطور بسرعة بحيث انتهى بالدعوة إلى قلب المشهد السياسي رأسا على عقب، وتسليم السلطة إلى قيادة القوات المسلحة. - إن التشخيص الصحيح للأزمة في مصر سيظل متعذرا طالما سمعنا رواية طرف واحد لما جرى، ولن نستطيع أن نصف التشخيص بالنزاهة أو الموضوعية ما لم يتح لنا أن نسمع رأي الطرف الآخر وروايته. ولأننا منذ عزل مرسي في الثالث من جويلية الماضي لا نسمع إلا وجهة نظر ناقديه وخصومه، فإن ذلك سيظل حائلا دون التقييم السليم للسنة التي قضاها في السلطة. ولا يشك أحد أو يجادل في أن أخطاء وقعت خلال تلك السنة، إلا أن المشكلة أنه ما عاد بمقدورنا أن نميز تلك الأخطاء عن غيرها، ليس فقط لكي ننصف الرجل، ولكن أيضا لكي نتعلم منها ونحاول تجنبها. خلاصة ما سبق أن للأزمة المصرية جزءها الظاهر للعيان وشقها الغاطس الذي لا نعرفه في الوقت الراهن على الأقل، لكننا ندرك أنه موجود، وكان فاعلا في السابق ولا يزال فاعلا إلى الآن. من ثم فليس أمامنا سوى أن نحلل ما هو ظاهر أمامنا لكي نحدد دوره في الأزمة التي أدعيها، ذلك أنني أزعم أن أساس البلاء ومشكلة المشاكل في مصر يكمن في موت السياسة في البلد، الذي أحدث فراغا هائلا تعذر ملؤه منذ إسقاط نظام مبارك، الذي اعتمد على الأجهزة الأمنية في إدارة البلد وتثبيت حكمه طوال ثلاثين عاما. موت السياسة الذي أعنيه يتمثل فيما يلي: تدجين الأحزاب وإخصاء القوى السياسية، بحيث تتحول إلى هياكل فارغة المضمون، حاضرة في الصورة وغائبة عن الفعل. وعملية الإخصاء والتقزيم لا تخضع لها الأحزاب السياسية فحسب، وإنما هي بمثابة لعنة تصيب بقية مؤسسات المجتمع والدولة، سواء كانت مجالس منتخبة أو نقابات مهنية وعمالية أو أية جهة أخرى تمثل المجتمع وتستدعي دوره. وهذه الإماتة التي تأخذ شكل الإلغاء تارة أو الإخضاع تارة أخرى، تعد تمهيدا طبيعيا وضروريا لتمكين الأجهزة الأمنية من القيام بدورها في إدارة المجتمع والتحكم فيه. هذا الوضع ترتب عليه أن أصبح لدينا أشخاص مهتمون بالسياسة، وليس لدينا قوى سياسية حقيقية، كما توفر لدينا أناس مخلصون ربما يتحدثون عن الديمقراطية، لكنهم لم يمارسوها أو يختبروها فلم يتمثلوا قيم الثقافة الديمقراطية. وكانت النتيجة أننا حفظنا اسم الديمقراطية لكننا جهلنا قيمها، وهتفنا لها في مظاهراتنا، لكننا كنا جاهزين للرسوب في أول اختباراتها. ويخطئ من يظن أن تلك النواقص أصابت فئة دون أخرى، لأن الأمانة تقتضي الاعتراف بأننا جميعا كنا ضحايا تلك الأجواء، وأن التشوهات التي أعنيها لم يسلم منها أحد من الذين شاركوا في اللعبة السياسية. ذلك وضع لا تنفرد به مصر، ولكنه من سمات مرحلة ما بعد الدكتاتورية، الذي يخيم فيها الفراغ على الساحة السياسية جراء إصرار الحكم الاستبدادي على احتكار السلطة وسعيه الحثيث والدائم إلى حرق بدائله. هذا الذي أقول به ليس اكتشافا، لأن كل متابع للشأن السياسي في مصر يعرفه جيدا، وإن كانت قلة منهم تجهر به، وفي الأسبوع الماضي وحده وقعت على مقالين عبرا عن نفس الفكرة، أحدهما كتبته منار الشوربجى تحت عنوان (ابحث عن الأحزاب)، وفيه انتقدت الأحزاب التي تنافست في إشهار اللافتات لكنها فشلت في الحضور على أرض الواقع (المصري اليوم 23/10)، أما المقال الثاني فظهر بعد ذلك بثلاثة أيام وقد كتبه إبراهيم عيسى تحت عنوان (أحزاب الخواء والهراء)، (التحرير 26/10) وطرح فيه الفكرة نفسها، ووصف فيه القيادات السياسية بأنهم مجرد ضيوف في القنوات الفضائية، وخطباء فارغون في قاعات فارغة. وقال عن الأحزاب إنها مجموعات صالونات وضيوف تلفزيونيين، ووصف قياداتها بأنهم (نخبة منتفخة ومنفصلة عن الواقع الحقيقي ومنتمية إلى الواقع الافتراضي). في الفراغ السياسي المخيم بدا أن قوى الإسلام السياسي هي صاحبة الحضور الأوفر حظا في الساحة السياسية وهو ما أثبتته خمسة انتخابات واستفتاءات متعاقبة جرت بعد 25 يناير 2011، انتهت بفوز مرشح الإخوان في الانتخابات الرئاسية، الأمر الذي نقل الأزمة إلى طور آخر، في ظله ظهر بديل في الساحة له شعبيته النسبية، لكنه لا يحظى بالإجماع أو التوافق مع القوى السياسية. لم يكن البديل جاهزا للحكم، ولا كانت (القوى) السياسية مستعدة للترحيب به أو التعاون معه، كما أن النخب المصرية تعاملت معه بدرجات متفاوتة من الحذر والتوجس. وسواء بسبب الأخطاء التي وقع فيها نظام مرسي، أو عملية الحصار والإيقاع التي مارستها القوى السياسية (المدنية) التي ظهرت في الساحة، أو جراء التدابير التي رتبتها القوى الأخرى غير المنظورة والتي حرصت على أن تبقى في الجزء الغاطس من المشهد. فالشاهد أن القوى المدنية وجدت مشروعا يجمع بينها تمثل في التوافق على إسقاط حكم الإخوان، من ثم ظل الشاغل الأساسي لتلك المجموعات هو كيفية هدم البناء القائم، دون أن تتطرق لفكرة البديل التالي. الأمر الذي يعني أن الاتفاق كان منعقدا حول ما ترفضه تلك القوى، لكنها لم تتفق على ما يمكن أن تقبل به. في التعامل مع الإخوان تحديدا بدا أن هناك اتجاهين، أحدهما معتدل يعترض على الأداء والأفكار، والثاني ضم الغلاة الذين صبوا اعتراضهم على الوجود ذاته. الأولون اختلفوا مع الإخوان ودعوا إلى إسقاط نظامهم وإخراجهم من السلطة، والآخرون دعوا إلى إقصائهم بالكلية من المشهد وإخراجهم من السياسة من خلال الدعوة إلى استئصالهم واجتثاثهم من المجتمع، سيرا على درب من حاولوا اجتثاث حزب البعث من العراق بعد احتلاله وإسقاط نظامه. ورغم أن دروس التاريخ علمتنا أنه ليست هناك فكرة تستأصل بقرار سياسي أو إداري، فإنه من الواضح أن كفة الأخيرين هي التي رجحت حتى الآن على الأقل، الأمر الذي أدخل الأزمة في طور أكثر تعقيدا وأخطر. ذلك أن عملية الاجتثاث والاستئصال تعد جراحة كبرى لا سبيل إلى إجرائها إلا بالاستعانة بأدوات الدولة البوليسية مع ما تستصحبه من إجراءات شديدة الوطأة وباهظة التكلفة. الأمر الذي من شأنه إعادة مصر إلى أجواء عهد مبارك الذي لفظه المجتمع حتى أسقطه بثورة 25 يناير. وفى هذه الحالة فإن المتضرر الحقيقي لن يكون الإخوان أو الإسلام السياسي فحسب، لكنه أيضا سيكون قيم وأشواق ثورة 25 يناير ذاتها. في ظل الفراغ المخيم وإزاء عجز الأحزاب السياسية القائمة عن الفعل السياسي فإنها رفعت ضمنا شعار: العسكر هم الحل، وهو شعار كان بمثابة إشهار لإفلاس تلك الأحزاب وإعلان عن عجزها عن كسب ثقة الناس وأصواتهم. وهو ما أشارت إليه منار الشوربجي في مقالها الذي سبقت الإشارة إليه، حين انتقدت تفويض الأحزاب للقوات المسلحة في إحداث التغيير الذي عجزت عن تحقيقه. وكان القيادي اليساري الأستاذ عبد الغفار شكر قد أشار إلى المعنى ذاته في مقالة نشرتها له جريدة الأهرام، قال فيها إنه في ظل ضعف جماهيرية الأحزاب المدنية الراهن في مواجهة تيار الإسلام السياسي، فليس أمامها من سبيل للمشاركة في السلطة إلا بالاستعانة بالقوات المسلحة. هذا وجه آخر للأزمة يعكس مدى استعصائها على الحل، ذلك أن الأحزاب المدنية أبدت استعدادا مدهشا للتخلي عن الديمقراطية ومدنية المجتمع مقابل إقصاء الإخوان. وليس المراد هنا إتاحة الفرصة لتلك الأحزاب لكي تمسك هي بزمام السلطة من خلال ائتلاف أو غيره، ولكن لكي ينفسح المجال لعسكرة المجتمع وترحيل حلمه في إقامة النظام الديمقراطي إلى أجل غير معلوم، ما العمل إذن؟ ليس أمامنا سوى أن نخوض التجربة وأن نمارس فنتعلم من الأخطاء ونستوعب الدروس التي من أهمها أن بلدا بحجم مصر أكبر من أي فصيل أو جماعة، وأن همه وحلمه لن يحمله إلى غايته إلا أبناؤه المخلصون، وهم موجودون في كل فئة وفصيل. وأولى الناس باستيعاب هذا الدرس هم عناصر الإسلام السياسي الذين يتعين عليهم أن يضربوا المثل في التفاعل مع الآخر واحتوائه، وأزعم أنهم إذا أعطوا إجازة خلوا فيها إلى أنفسهم وحاولوا الاستفادة من تجربتهم في السلطة، فإن ذلك سيعد خطوة مهمة يمكن أن يبنى عليها الكثير من إصلاح ما فسد وترميم ما انهدم، إذ ليس المطلوب إنقاذ الإسلام السياسي من مأزقه، لأن الأهم هو إنقاذ الوطن والوصول بسفينته إلى بر الأمان.